رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

عبدالناصر والشعب المصرى.. معادلة حب خالدة


لم أكن فى أى يوم من الأيام ناصريًا، ولكننى كنت فى كل الأيام محبًا لعبدالناصر، وقد استلفت نظرى عبر سنوات عمرى أن الشعب المصرى كان يستحضر صورة عبدالناصر فى أوقات الأزمات، وأظننا جميعًا فى مراحل أعمارنا كنا نستمع إلى صوته وهو يصل إلينا من سنوات بعيدة ليصافح آذاننا وهو يقول: «تؤمم شركة قناة السويس شركة مساهمة مصرية»، وكأن صوته هذا ظل يدور فى الزمن مصرًا على البقاء قيد الحياة لا يريد أن يغادر دنيانا أبدًا.
كان عبدالناصر مُلهما للمصريين فى تلك الأيام، ومن الغريب أن يظلَّ مُلهِما لعموم الشعوب العربية والإفريقية فى أوقات الأزمات، ولك أن تتعجب من هذا الشعب المصرى الذى سخر بنكاته من حكامه ومنهم عبدالناصر، لأنه هو نفسه الشعب الذى سخط على عبدالناصر وسخر منه عند هزيمة ١٩٦٧ حتى بات الجميع يظن أن الشعب المصرى سيطيح ببطله وسيحذفه من الحكم، بل من مصر كلها، والمُدهش أنه هو أيضًا نفس الشعب الذى وبغرابة شديدة خرج إلى الشارع ليمنع عبدالناصر من التنحى ويقول له: «لقد أصبحت رمزًا للتحدى فلا تتركنا، بك سنتحدى، وبك سنعبر الهزيمة»، وقبل عبدالناصر التكليف الشعبى له ودخل فى حُكمه إلى مرحلة جديدة من التحدى فاستعاد صورته البطولية مرة ثانية أمام شعبه، هذا الشعب الغريب حد الدهشة والمدهش حد الغرابة هو ذاته الشعب الذى غنى مع عبدالحليم بعد النكسة أغنيته الحزينة المشبوبة بالأمل «عدى النهار» وكنت تستطيع أن ترى دموع التحدى فى عيون المصريين وهم يسمعون عبدالحليم يختم أغنيته مغردًا: «وإحنا بلدنا للنهار بتحب موال النهار» وهو أيضًا نفس الشعب الذى خرج بالملايين لتشييع جنازة بطله «المُتَحَدى» عبدالناصر فى جنازة لم يشهد التاريخ مثلها من قبل، خرج وهو يبكى وفى ذات الآن خرج وهو يُغنى: «الوداع يا جمال يا حبيب الملايين» وكانت هذه أول مرة فى التاريخ يغنى فيها شعبٌ بأكمله أغنية يكون هو فيها المطرب والكورس فى نفس الوقت، ولا أظن أن أحدًا يستطيع وصف تلك المشاهد، ولكنك يجب أن تكون حاضرًا فيها لتعرفها حق المعرفة وتحللها وتخرج منها بتحليل دقيق للشخصية المصرية، وقد كنت حاضرًا فى هذا اليوم رغم أننى حينئذ كنت غلامًا يافعًا لم أبلغ مبلغ الشباب بعد، هل تعرفون لماذا أحب المصريون عبدالناصر رغم أخطائه؟ هل تريدون معرفة لماذا غفر الشعب لعبدالناصر هزيمة ١٩٦٧؟ هل تتملككم الدهشة وأنتم ترون هذا الشعب فى كل مواقف التحدى بعد موت عبدالناصر يستحضر صورته وكلماته ويرفع صوره؟!
هل تتعجبون وأنتم ترون أجيالًا جديدة لم تر عبدالناصر ولم تعرفه حق المعرفة إلا أنها تهتف باسمه فى الملمات كأنها تستنقذ نفسها به من خطوب الدهر؟! هل تريدون معرفة لماذا لم تُمح صورة عبدالناصر من ضمير المصريين رغم التشويه الذى مارسته ضده جماعة الإخوان بدوائرها المتسعة، والتنكيل الذى لحق سُمعته من الطوائف السياسية اليمينية التى تضررت من قراراته الاقتصادية والسياسية؟ كل ذلك لسبب واحد، هو أن عبدالناصر كان عنوانًا للتحدى وإن أخطأ، وغيره كان عنوانًا للتراجع والخضوع وإن أصاب! فكلمة السر التى تُلهب خيال المصريين وتستنهض ملكاتهم وقدراتهم هى «التحدى».
وحين أردت الوقوف على نفسية هذا الرجل الذى حيَّر العالم ذهبت إلى طبيب نفسى من الأصدقاء كان مغرمًا بتحليل الشخصيات، فاستخرج لى من شبكة الإنترنت توقيع جمال عبدالناصر، وقال لى: انظر معى للتوقيع، ستجده يبدأ من أسفل ثم يرتفع، وفى ذلك دلالة على الطموح والفخر والاعتزاز بالنفس، أما الخط الذى يضعه دائمًا تحت توقيعه فهو يدل على أنه شخصية تحب أن يمتدحها الناس، ولا يقبل أبدًا أى موقع هامشى فى حياته، ولكنه ينظر دائمًا لموقع القيادة، ثم انظر لتوقيعه مليًا، ستجده يوقِّع باسمه الثلاثى، وهذا يدل على أنه ودود، مُحب لعائلته، فخور بها، بسيط فى تعاملاته مع الناس، وركز معى فى المكان الذى يضع فيه عبدالناصر توقيعه، إنه يضعه أقرب لمنتصف الصفحة، وهذا يدل على أنه يحب الحرية ويكره الغموض، لذلك فهو صريح وواضح لا يُخفى شيئًا، وفوق هذا لك أن تضع عدسة مكبرة على خطوطه لتعرف أنها مستقيمة طويلة لتعرف أنه صريح جدًا لا يكذب، وهذا أمرٌ سيئ جدًا بالنسبة للسياسى.
نترك الطبيب النفسى الخبير فى تحليل الشخصيات، لنذهب إلى الأفكار، لتجد أن جمال عبدالناصر كان مغرمًا بالقراءة جدًا، فمنذ صغره وهو يقرأ الكثير من الأدب العالمى، وكان حبه لرواية «عودة الروح» لتوفيق الحكيم لا يضارعه حب، ومن الغريب أن عبدالناصر منذ حداثة سنه وهو يقرأ للعقاد، وطه حسين، حتى إن كتاب «مستقبل الثقافة فى مصر» كان من الكتب المفضلة لجمال عبدالناصر، وقد آمن عبدالناصر بأفكار طه حسين وجعل من مقولته «التعليم يجب أن يكون كالماء والهواء» شعارًا للتعليم عندما أصبح رئيسًا، وقد منحه عبدالناصر قلادة النيل عام ١٩٦٥ وفى عهد عبدالناصر أصبح طه حسين رئيسًا لمجمع اللغة العربية، نفس الأمر ينطبق على عباس العقاد، ونجيب محفوظ وغيرهما من كبار الأدباء والمفكرين والفلاسفة، كلهم كان موضع تكريم من عبدالناصر، حتى إنه جعل من أعيادنا عيدًا للعلم يكرم فيه العلماء، وفى عصره أطلق عبدالناصر العنان للمسرح المصرى لكى يبزغ، وللسينما لكى تتفرد، وللكتاب لكى ينتشر، وأعطى كمال الدين حسين إشارة البدء فى وضع نظام ثقافى وفكرى وفنى فى التعليم المصرى، وفى ذات الوقت أعطى عبدالناصر لثروت عكاشة، وزير الثقافة، كل الصلاحيات لينشئ نظامًا ثقافيًا فريدًا فى البلاد.
هذا هو عبدالناصر الذى كان يقرأ لطه حسين ويعجب بكتاباته، ويقرأ لتوفيق الحكيم ويتأثر برواياته ومسرحياته، ويقرأ لفيكتور هوجو فيتأثر بروايته الخالدة «البؤساء» ويتفاعل معها إلى حد البكاء، ويقرأ لتشارلز ديكنز روايته المدهشة «قصة مدينتين» ويظل عبدالناصر طوال حياته قارئًا نهمًا، وحينما كانت الرقابة تقف أمام فيلم أو رواية أو قصة إذا بعبدالناصر ينتصر للعمل الفنى والأدبى، حتى تلك الروايات التى انتقدته شخصيًا، مثل رواية الكاتب الكبير ثروت أباظة «شىء من الخوف» فحينما تحولت إلى فيلم عام ١٩٦٩ كان عبدالناصر هو الذى أنقذها من براثن الرقابة.
وقبل أن أختم مقالى أقول إن سبب خلود عبدالناصر فى الضمير المصرى هو أنه كان رمزًا للتحدى وعنوانًا حقيقيًا للشخصية المصرية، فقد رأى الشعب المصرى فى عبدالناصر زعيمًا للتحدى وأبًا للغلابة، وزعيمًا صنع لنفسه أصدقاءً وخلق من حوله أعداءً، قاوم تحديات ضخمة فى الداخل، وتحديات أضخم فى الخارج فنجح وفشل، أصاب وأخطأ، ومع ذلك أحب المصريون صوابه وتغنوا به، وغفروا له خطاياه وسامحوه، ولكن أعداء الداخل لم يسامحوه أبدًا، فظلوا وسيظلون يشنقونه فى اليوم مائة مرة، وسيظل يعيش فى أفئدة المصريين إلى أن ينتهى التاريخ.