رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

محمد عبده.. أول مُفتٍ مستقل لمصر


وُلد محمد عبده حسن خيرالله فى قرية «محلة نصر» بمركز شبراخيت فى محافظة البحيرة فى ١١ يوليو سنة ١٨٤٩م لأب كان جَدّهُ من التركمان وقد اشتهر والده بإكرام الغرباء واحترام الضيوف، وأم مصرية تدعى «جنينة بنت عثمان» من مديرية أسيوط بصعيد مصر، وعُرف عنها مساعدة المساكين والفقراء والعطف على الضعفاء، وكانت الأسرة ميسورة الحال من المزارعين، وتلقى تعليمه التقليدى فى كُتاب القرية وحفظ القرآن الكريم وبعض التفسير والحديث واللغة، وبعد تردد التحق لمدة عام لتلقى العلم بالجامع الأحمدى فى طنطا، ثم التحق بالجامع الأزهر عام ١٨٦٦م؛ ليستكمل تعليمه ويواصل تلقى العلم لمدة ١١ عامًا، إلى أن حصل على شهادة العالمية، فعُين مدرسًا للتاريخ الإسلامى بمدرسة دار العلوم «حاليًا كلية دار العلوم» ومدرسة الألسن، وقد قام فى المدرستين بتدريس مقدمة وتاريخ «ابن خلدون» الذى أسس علم الاجتماع ونقد التاريخ وفلسفته برؤية «وضعية» لتفسير المجتمعات الإنسانية.
فى عام ١٨٧١م وطد علاقته بجمال الدين الأفغانى، بعد اتفاقه معه على ضرورة إحداث تغيير جذرى فى حياة الشعوب الإسلامية لتتمكن من مواجهة أخطار العصر الاستعمارى وتهديداته، ولكى ترفع مستوى معيشتها وتضمن مستقبلها كحضارة غنية ومتميزة.
اشترك فى ثورة أحمد عرابى ضد الإنجليز رغم أنه وقف منها موقف المتشكك فى البداية؛ لأنه كان صاحب توجه إصلاحى يرفض التصادم، لكنه شارك فيها فى نهاية الأمر، وبعد فشل الثورة حُكم عليه بالسجن ثم بالنفى إلى بيروت لمدة ثلاث سنوات، وسافر بدعوة من أستاذه جمال الدين الأفغانى إلى باريس سنة ١٨٨٤م، وأسس صحيفة «العروة الوثقى»، وفى سنة ١٨٨٥م غادر باريس إلى بيروت، وفى العام ذاته أسس جمعية سرية بالاسم ذاته «العروة الوثقى».
يُعدّ «الإمام محمد عبده» واحدًا من أبرز المجددين فى الفقه الإسلامى فى العصر الحديث، وأحد دعاة الإصلاح وأعلام النهضة العربية الإسلامية الحديثة؛ فقد أسهم بعلمه ووعيه واجتهاده فى تحرير العقل العربى من الجمود الذى أصابه لعدة قرون، كما شارك فى إيقاظ وعى الأمة نحو التحرر، وبعث الوطنية، وإحياء الاجتهاد الفقهى لمواكبة التطورات السريعة فى العلم، ومسايرة حركة المجتمع وتطوره فى مختلف النواحى السياسية والاقتصادية والثقافية، وقد تأثر به العديد من رواد النهضة، مثل عبدالحميد بن باديس ومحمد رشيد رضا وعبدالرحمن الكواكبى.
فى سنة ١٨٨٦م اشتغل بالتدريس فى المدرسة السلطانية، وفى بيروت تزوج من زوجته الثانية بعد وفاة زوجته الأولى، وفى سنة ١٨٨٨م عاد محمد عبده إلى مصر بعفو من الخديو توفيق، حينما تدخل سعد زغلول لكى يعود إلى مصر صديقه وأستاذه الشيخ محمد عبده، فطلب من «الأميرة نازلى فاضل» التدخل لدى ابن عمها «الخديو توفيق» للسماح له بالعودة، فوافق الخديو توفيق، وقد اشترط عليه كرومر ألا يعمل بالسياسة، فقبل.
وفى سنة ١٨٨٩م عُين قاضيًا بمحكمة بنها، ثم انتقل إلى محكمة الزقازيق ثم محكمة عابدين، ثم ارتقى إلى منصب مستشار فى محكمة الاستئناف عام ١٨٩١م.
فى ٣ يونيو سنة ١٨٩٩م صدر مرسوم خديوى وقعه الخديو عباس حلمى الثانى بتعيين الشيخ محمد عبده مُفتيًا للديار المصرية، وكان منصب الإفتاء يضاف لمن يشغل وظيفة مشيخة الجامع الأزهر فى السابق، وبهذا المرسوم استقل منصب الإفتاء عن منصب مشيخة الجامع الأزهر، وصار الشيخ محمد عبده أول مفتٍ مستقل لمصر مُعين من قبل الخديو عباس حلمى، وعدد فتاوى الشيخ محمد عبده بلغ ٩٤٤ فتوى استغرقت المجلد الثانى من سجلات مضبطة دار الإفتاء بأكمله وصفحاته ١٩٨، كما استغرقت ١٥٩ صفحة من صفحات المجلد الثالث، من أشهر تلك الفتاوى، فتواه بصحة نظام «التوفير فى البريد» بالأرباح، وصحة نظام «التأمين»، وهو ما ساعد على تأسيس النهضة الأولى للاقتصاد المصرى عن طريق الادخار الاجتماعى واستثمار المدخرات لصالح المجتمع، وفتواه بجواز نحت وإقامة التماثيل لوجوه الأمة، وبجواز الاستعانة بغير المسلمين فى إصلاح أحوال الأمة، وبضرورة تعلم لغات الأمم الأخرى طلبًا للعلم والحكمة وتجنبًا للشرور الوافدة أو الثابتة.
من تلاميذه شاعر النيل حافظ إبراهيم، شيخ الأزهر محمد مصطفى المراغى، شيخ الأزهر مصطفى عبدالرازق، الشيخ محمود شلتوت، شيخ العروبة محمد محيى الدين عبدالحميد، سعد زغلول، أحمد لطفى السيد، قاسم أمين، محمود سامى البارودى، إبراهيم المويلحى، وغيرهم.
ظل الشيخ محمد عبده مفتيًا للديار المصرية ست سنوات كاملة حتى وفاته عام ١٩٠٥م. ففى الساعة الخامسة مساء يوم ١١ يوليو عام ١٩٠٥م توفى بالإسكندرية بعد معاناة من مرض السرطان عن ٥٦ سنة، وهنا يقدم لنا الإعلامى القدير الأستاذ فايز فرح وصفًا لجنازته فقال: «وأثناء جنازته ازدحم الناس، وأغلقت المحلات، وتوقف البيع والشراء، وتعطلت حركة الأسواق، وجاوز الزحام كل ما قدرته الشرطة واستعدت له، وكانت جنازته مظاهرة حب له، عبرت عن وفاء أبناء مصر جميعًا لرجل عاش من أجل مصر وفى حب مصر»، ودُفن بالقاهرة ورثاه العديد من الشعراء، فقال عنه شاعر النيل حافظ إبراهيم:
بكى الشرقُ فارتجت له الأرض رجةً
وضاقت عيون الكونِ بالعبرات
ففى الهند محزون وفى الصين جازع
وفى مصر باكِ دائم الحسرات
وفى الشام مفجوع وفى الفرس نادب
وفى تونس ما شئت من زفرات
بكــى عالـم الإســــلام عالِـم عصـره
سراج الدياجى هادم الشبهات.