رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

استهداف «أرامكو» والتوافق الإيرانى الأمريكى


ترامب كان يدرك جيدًا أن إيران لن تستهدف القوات الأمريكية فى الخليج، ردًا على تصعيد العقوبات ضدها، ومنعها من تصدير النفط، لكنه توقع تنفيذها التهديد الخاص بوقف ضخ النفط السعودى للخارج.. إيران استبعدت إغلاق مضيق هرمز فى ظل الوجود العسكرى الغربى المكثف، وجهود تشكيل تحالف دولى يضمن حرية الملاحة، فاستهدفت البنية الأساسية للنفط فى المملكة، وحاولت إضعاف قدراتها الإنتاجية.. ضرب أصول شركة «أرامكو» السعودية العملاقة هدف توافقت عليه مصالح إيران وأمريكا.. أن يتوافق العدو والحليف على استهداف المملكة، هو «أم المصائب»!.. ما يفرض توضيح مبرراته ونتائجه.
المملكة حولت «أرامكو» لـ«شركة مساهمة»، تمهيدًا لطرح ٥٪ من أسهمها للاكتتاب العام ٢٠٢٠-٢٠٢١، أصول الشركة قدرت قيمتها بـ٢ تريليون دولار، وقيمة الطرح الأولى ١٠٠ مليار دولار، تدعم طموحات خطة التنمية السعودية ٢٠٣٠، وتحقق رقمًا قياسيًا يفوق الـ«٢٥ مليار دولار» التى حققتها «على بابا جروب» الصينية ٢٠١٤.. الحدث ضخم زلزل الأسواق المالية العالمية، وفرض تدخل الإدارة الأمريكية، خاصة أن مجلس إدارة «أرامكو» رفض طرح الأسهم فى «بورصة نيويورك»، تجنبًا للمخاطر القانونية، المتعلقة بقانون «جاستا»، وإمكانية توظيفه للاستحواذ على العائدات، إضافة لأطماع ترامب الصريحة فى أموال الخليج، مما يفسر قرار البدء بالطرح فى «بورصة الرياض»، لترويج نسبة ١-٣٪ بالسوق المحلية قبل الطرح بالسوق الدولية، لرفع قيمة الأسهم، وتوليد طلب عليها. شركات الطاقة العالمية، وجزء ضخم منها أمريكى، تتخوف من طرح أسهم «أرامكو».. بيتر كولمان رئيس «لوودسايد الأسترالية» حذر من امتصاص الحصة المطروحة للسيولة من شركات الطاقة المنافسة، حيث سيعيد المستثمرون توزيع الأموال بمحافظهم لصالحها، وأورى أن الطرح سيجتذب حصة الاستثمارات التى كانت تتجه تقليديًا لسندات الخزانة الأمريكية، وشركات النفط والغاز الصغيرة والمتوسطة بأمريكا.

تحمست للتدخل السعودى باليمن منذ بدء «عاصفة الحزم»، أملًا فى كسر الحصار الذى تفرضه إيران على المملكة، لكننى ندمت عندما فشل حصار الميليشيات الحوثية، فتحولوا بالدعم الإيرانى إلى جيش ودولة، على جزء غالٍ من اليمن، أصبح قاعدة إيرانية تهدد باب المندب، وخنجرًا فى خاصرة المملكة.. أداة هذا التحول الاستراتيجى لم تكن الصواريخ البالستية، وإنما الطائرات المسيرة «الدرونز»، وصواريخ الكروز البسيطة، وهما سلاحان هجوميان يتجهان نحو التماثل، باستثناء اختلاف القدرة التدميرية لكل منهما.. هذان السلاحان الهجوميان أحدثا ثورة فى استراتيجيات الهجوم بالعالم، وأضرا بشبكات الدفاع الجوى، وذلك جدير بالتناول. إيران بدأت التصعيد معتمدة على عملائها الحوثيين باليمن، ولكن بسلاحها وخبرائها، وبنك الأهداف الخاص بها.. سبع طائرات «درونز» استهدفت محطتى الضخ لخط أنابيب «أبقيق - ينبع» بمحافظتى الدوادمى وعفيف بمنطقة الرياض، التابع لـ«أرامكو» ١٤ مايو الماضى، وأحدثت كسرًا بعرض ٤ أمتار فى الأنبوب الرئيسى الذى تبلغ مساحة عرضه ١١ متر٢، فى تطور نوعى غير مسبوق لدقة إصابة الهدف، ما أدى إلى توقف الضخ لميناء التصدير فى ينبع.
الهجوم على «حقل الشيبة» النفطى ١٤ أغسطس تم بعشر طائرات «درونز»، استهدفت الحقل ومصفاة الإسالة والخزانات التابعة لـ«أرامكو»، وأشعلت فيها النيران.. اختيار الحقل استهدف تهديد الإمارات، التى يقع على حدودها مباشرة، لسرعة الانسحاب من اليمن.. المسافة بين صعدة والشيبة قرابة ١٢٠٠ كيلومتر مما يعكس حجم تطور «الدرونز» الإيرانية، من حيث بُعد المسافة ودقة التصويب.
الهجوم على «مصفاة أبقيق» أكبر مجمعات النفط فى العالم التابعة لـ«أرامكو»، وثانى أكبر حقل نفطى فى المملكة «هجرة خريص»، وقع فى ١٤ سبتمبر، استهدف ١٩ نقطة، باستخدام ١٥ طائرة مسيرة، سبقتها ثلاث طائرات لاستكشاف الطريق وتعديل المسارات، و٧ صواريخ كروز.. أصابت الحقل و١٤ خزانًا للنفط، تقع فى الاتجاه الغربى والشمالى الغربى، مما يؤكد قدومها لأول مرة من الأراضى الإيرانية، مرورًا بالعراق والكويت، حيث رصدتها الأخيرة قادمة من البحر.. حلقت فوق العاصمة، ووصلت إحداها إلى مقر الأمير بدار سلوى، على ارتفاع ٢٥٠ مترًا، ثم أضاءت كشافاتها لمدة دقيقة وغادرت، بعد عملية تصوير جوى صريحة، لتعزيز بيانات بنك الأهداف، التى قد تستهدفها مستقبلًا.. وهو مؤشر ينذر بأطماع طهران فى كامل منطقة الخليج.
«أرامكو» فى أعقاب الهجوم، ورغم تراجع الإنتاج إلى نصف معدلاته، لم تعلن «الظروف القهرية»، بل سحبت كميات ضخمة من المخزون خصصتها لتلبية التعاقدات، وسلمت النفط المتوسط والثقيل كبديل لنسبة من النفط الخفيف، إثباتًا لقدرتها على الوفاء بالتزاماتها التصديرية، والحفاظ على سمعتها الدولية، وضمان عدم تأثر القيمة المالية المقدرة لأصول الشركة خلال مرحلة الإعداد لطرح الأسهم.. وكلفت «مجموعة يو. بى. إس» و«بنك دويتشه» بإدارة دفاتر الطرح، لتعكس الجدية والثقة.. وترجمت كل ذلك على الأرض بتوظيف قدراتها المهنية والتقنية فى استعادة قرابة نصف الإنتاج المفقود بعد أسبوع واحد من الهجوم.. كل ذلك لا ينفى بالطبع أن الهجمات طرحت مخاطر تتعلق بأمن منشآت الشركة، وتأثيرها السلبى على الإنتاج، مما يرفع التكلفة التأمينية لأصولها وأنشطتها، ويمس قيمتها السوقية العامة.. الصراع الأمريكى الإيرانى مجرد خلاف بين حلفاء قدامى اعتادوا تقاسم الأدوار والمصالح بالمنطقة.. المواجهة الراهنة تتعلق بخلافات على الشروط.. أمريكا أوقفت صادرات النفط الإيرانى فى عملية لى ذراع لتعديل الاتفاق النووى، فاستهدفت الذراع الأخرى أصول «أرامكو»، ما حقق لأمريكا مصلحة مالية كانت لا تدرى كيفية إنجازها.. إلا أن استخدام «الدرونز» كأداة ناجحة للهجوم، أصاب نظام الدفاع الجوى الأمريكى «باتريوت» فى القلب، فالرادارات عجزت عن رصدها، ومحركات الصواريخ بدأت فى العمل على الأرض قبل الانطلاق لبضع ثوانٍ كانت كافية لتضييع الأهداف، بخلاف المنظومات الروسية التى تنطلق من الأرض أولًا ثم يبدأ المحرك فى العمل.. وهناك خلل جسيم بين تكلفة «الدرونز» بين ٣٠٠ و٣٠٠٠ دولار، وصاروخ يتجاوز ٣ ملايين دولار.. الوجود العسكرى الأمريكى بالخليج رهان على الردع، لا يواجه ما حققته «الدرونز» من ثورة فى مجال أسلحة الجو الهجومية، ولم يشرع فى ثورة مقابلة بصناعة الرادارات، والأسلحة المضادة.
ثورة «الدرونز» تتعلق بسلاح استراتيجى.. غير قواعد الاشتباك، وقلب توازنات القوى، ونقل الحرب إلى المدن والأهداف الحيوية بدقة أشبه بمشرط جراح.. والأهم أنها فى بداية مراحل تطويرها.. أفقها متسع، وتكلفتها محدودة.. كل القوى الإقليمية المحيطة خاصة إسرائيل وتركيا وإيران، تنتج وتطور «الدرونز» كسلاح رئيسى، وبدور رائد على مستوى العالم، وإسرائيل تطور «مدفع الليزر» أهم الأسلحة الجديدة المضادة لها.. تلك فرصة ذهبية لأن نبدأ الآن، وليس غدًا، فى التطوير الذاتى لواحد من أخطر أسلحة المستقبل، يتصدر جيلًا جديدًا من أسلحة الردع الفعالة والرخيصة.