رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

من الأستاذة منة الله إلى الحاجة حرم على بيه


«منة الله»، هذا اسمها.. طفلة وحيدة مدللة فى أسرتها الصغيرة ميسورة الحال لا تطمع فى شىء إلا فى الستر وحُسن الختام، كانت «منة الله» هدية السماء لأب أكدت له التقارير الطبية أن لا أمل فى أن ينجب فى يوم من الأيام، وكانت الأم قد تأقلمت مع هذا الوضع رغم اشتياقها لممارسة الأمومة مثل كل النساء اللائى يعشن فى مجتمعات ذكورية تضخم دور الأمومة وتعتبره هو مقياس الأنوثة والقيمة والمكانة والهدف الأساسى من خلق المرأة.
كان مناسبًا جدًا أن تُسمى الطفلة التى جاءت عكس إرادة الطب وتقارير الأطباء بـ«منة الله»، التى طمأنت الأم والأب أن هناك منْ سيتلقى العزاء حينما يرحلان عن الحياة الدنيا.
من الأب أخذت «منة الله» طيبة القلب وزرقة العينين، ومن أمها أخذت الكرم وطول القامة.
كل صيف تسافر «منة الله» إلى الإسكندرية فى سيدى بشر، حيث الشاطئ المفعم بعشق البحر والحرية والفرسكا والمرح الراقى والعواطف المتحضرة بين الشباب والشابات، «منة الله» تلبس المايوه البكينى وتسبح بعيدًا لتكتشف هل هناك نهاية للأمواج، وإن كان الأزرق فى عينى أبيها ينبع من زرقة البحر، تتمدد على الرمال الساخنة لتسمح للشمس بأن تتسلل إلى كل جزء من جسدها المتعطش للدفء.
أنهت «منة الله» دراستها الجامعية بتفوق وعُينت معيدة فى كلية العلوم، كانت تعيش قصة حب بدأت فى سيدى بشر واستمرت ثلاث سنوات، ولم تكن تعلم أن حبيبها «مجد» مسيحى إلا عندما اقترب موعد الزواج، قالت: «أنا مكنتش أعرف»، رد «مجد»: «أنت عمرك مسألتينى».
بسهولة ودون تردد ودون حساسية أو تحفظ تم الاتفاق بين الأسرتين على أن يُشهر «مجد» إسلامه، تساءلت «منة الله»، لماذا لا نكتفى بالحب حتى يكون الزواج صالحًا وشرعيًا؟
كان «مجد»، يعمل فى أحد البنوك المصرية، وكان يشجع «منة الله» على تكملة الدراسات العليا، كان لطيف المعشر يقتسم معها أعباء البيت ويشاركها الرأى فى ضرورة تأجيل الإنجاب لبضع سنوات، لكن القدر كان لهما بالمرصاد، فقد مات «مجد» بعد حادث سيارة مروع، وتحولت حياة «منة الله» إلى جحيم تود الخلاص منه، هى تعيش وتكمل رسالة الدكتوراه وتواصل التدريس بالكلية، دون مبالاة، دون حماس، دون أمل فى أى شىء، تمشى كالتائهة، عيونها شاردة، خطواتها ثقيلة، شهيتها للطعام تفتر، لا يأتيها النوم إلا مع بداية الفجر.
وتزوجت «منة الله» للمرة الثانية من أحد معارف العائلة، رجل أعمال «على بيه» الذى عاد من الخليج بعد عشر سنوات من العمل هناك.
فى سنتين متتاليتين فقدت «منة» أباها وأمها، ودونهما فقدت البقية الباقية من نضارتها وحيويتها، وبالتدريج مع ازدهار الانفتاح الاقتصادى تحول اسمها من الأستاذة «منة الله» التى تعد الدكتوراه إلى «حرم» على بيه، التى تعد جسدها كل ليلة وجبة شهية لزوج لا يشبع من فحولته، ولا من استثماراته فى اللبان وصناعة السِبح والبطاطس المقلية.
على بيه لا يعجبه سفور زوجته وخروجها كل يوم إلى الجامعة، كل يوم يدب معها خناقة تصل أحيانًا إلى أن يضربها، ويقول لها: «هو إحنا محتاجين الملاليم اللى بتقبضيها من الحكومة؟ الناس يقولوا عليا إيه؟، سايب مراته تتمرمط عشان مش مكفى بيته.. أنا لما أقول كلمة ماحبش حد يتنيها عليا.. وبعدين هتتحجبى غصب عنك، ستات وبنات عيلتنا اتحجبوا كلهم، إنتى عايزه تهزئينى، يقولوا مش عارف يحكم الست حرمه؟».
تركت «منة» شغلها وقعدت فى البيت ولبست الحجاب، وكلما ازدادت الصفقات التجارية التى يعقدها «على بيه»، ازداد تشدده وتزمته مع زوجته، وفى يوم أحضر لها شرائط تسجيل تحتوى على مواعظ وفتاوى دينية.
قال لها: «دول من أختى الحاجة دولت ربنا يبارك لها فى ميزان حسناتها»، وسافرت «منة» مع زوجها لأداء الحج، وبعدها بأيام عادت ملفوفة فى النقاب الأسود لا يظهر منها إلا ثقب العينين، وبعد عدة أشهر أصبحت الحاجة «منة الله» تعطى دروسًا دينية للنساء والفتيات فى الحى الذى تسكن فيه كل يوم أربعاء، بعد أن ختمت القرآن بتشجيع ومساعدة الحاجة دولت أخت زوجها.
فى غرفة العمليات، «منة» تصرخ من شدة الألم، فالجنين فى وضع غير طبيعى وعلى الطبيبة فى المركز الإسلامى التدخل سريعًا، يمر الوقت عصيبًا على الزوج «المنتظر» يدعو الله أن ينقذ زوجته وطفله الأول، ثم تخرج الطبيبة ومعها المولود بين يديها، وتقول للزوج: «بذلنا أقصى جهدنا.. لكن دى إرادة ربنا.. اللهم لا اعتراض.. البقاء لله».
حاملًا ابنه الوليد إلى خارج المستشفى.. يتذكر الحاج على بيه ليلة الأمس، حيث رأى زوجته «منة الله» لآخر مرة وهى على السرير وتقول له فى صوت واهن متوسل والعرق يتصبب من جبينها: لو جه ولد أمانة عليك يا حاج سميه «مجد»، ثم راحت فى غيبوبة.
من بستان قصائدى
علمنى كيف أنسى كل الأشياء
نسى أن يعلمنى
كيف أنساه؟