رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«التوبة».. عقد صلح مع الله


تتنوع العبادات، وكل عبادة لها أثرها على قلب الإنسان، فأثر الصلاة فى القلب غير أثر الصيام غير أثر الزكاة والحج، أما الذكر فإنه يجدد روح ومعنى كل العبادات الأخرى فى القلب، فبدون الذكر تتحول أغلب العبادات إلى روتين جامد بلا روح، لكن دوام الذكر يجدد معنى وحلاوة وروح كل العبادات الأخرى.
هذا له عدة أدلة، منها حديث النبى، صلى الله عليه وسلم: «جددوا إيمانكم فإن الإيمان يُبلى كما يُبلى الثوب، فقالوا: ما نقول يا رسول الله؟ قال: قولوا لا إله إلا الله».
ويقول الله تعالى: «الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِى خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَٰذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ».
ذكر الله يجدد الإيمان فى القلوب، كما جاء فى الحديث عن النبى، صلى الله عليه وسلم: «مثل الذى يذكر ربه والذى لا يذكره كمثل الحى والميت»، «أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ»؛ فالذكر يُحيى القلب، فيحول باقى العبادات من صور جامدة إلى عبادات حية.
لذلك ظاهر الأمر فى القرآن أن الذكر واجب وليس نافلة، لأن كل كلام عن الذكر فى كتاب الله يأتى بصورة فعل الأمر: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا»، فصيغة الأمر عندما تجىء فى القرآن فإنها تأتى على سبيل الوجوب، وهو إن كان ليس من أركان الإسلام الخمسة، لكن أحد الفروض المحركة لهذه الأركان التى لا يصح إيمان الفرد إلا بها.
ومن أعظم الذكر الذى لا يخلو منه قلب امرئ مؤمن بالله تعالى، «الاستغفار»، وهو الاعتراف بالخطأ، والإقرار بالذنب، والندم عليه، والتوسل إلى الله، والتذلل والخشوع إليه، رجاء أن يقبل توبته وأن يغفر سيئاته، صغيرها وكبيرها، طمعًا فى عفو الغفور الرحيم، الذى لا يرد تائبًا، ما دام كان صادقًا مخلصًا: «وَهُوَ الَّذِى يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ».
لا يعدل توبة الله على العبد فرحة، فهو أشد ما يكون فرحًا عندما تزف إليه البشريات بأن الله قد صفح عنه، هذا كعب بن مالك الأنصارى السلمى، أحد الثلاثة الذين تاب الله عليهم بعد تخلفهم عن غزوة تبوك، يقول: نزلت توبتنا على النبى، صلى الله عليه وسلم، ثلث الليل، فقالت أم سلمة: يا نبى الله، ألا نبشر كعبًا؟ قال: إذن يحطمكم الناس، ويمنعونكم النوم، قال: فانطلقت إلى النبى، فإذا هو جالس فى المسجد وحوله المسلمون، وهو يستنير كاستنارة القمر، فقال: أبشر يا كعب بخير يوم أتى عليك، ثم تلا عليهم: (لقد تاب الله على النبى..) الآيات، وفينا نزلت أيضًا: (اتقوا الله وكونوا مع الصادقين)، فقلت: يا نبى الله، إن من توبتى ألا أحدث إلا صدقًا، وأن أنخلع من مالى كله صدقة، فقال: أمسك عليك بعض مالك، فهو خير لك، وفى لفظ: فقام إلى طلحة يهرول، حتى صافحنى وهنأنى، فكان لا ينساها لطلحة.
كما أن الله تعالى يفرح بتوبة عبده، فقد ثبت عن النبى، صلى الله عليه وسلم، أنه قال: «لله أشد فرحًا بتوبة عبده من أحدكم براحلته التى عليها طعامه وشرابه فأضلها فى أرض فلاة فاضطجع قد أيس منها، فبينما هو كذلك إذا هو بها قائمة على رأسه فلما رآها أخذ بخطامها وقال من شدة الفرح: اللهم أنت عبدى وأنا ربك، أخطأ من شدة الفرح».
للتوبة شروط ثلاثة تتحقق عندما يلهج العبد إلى ربه بالاستغفار: «استغفر الله».
- الندم: فإن أردت أن يقبل الله توبتك، عليك أن تقر الأول بذنبك، وأن تندم على ما فعلت، وأن يمتلئ قلبك حزنًا على ما قدمت، وأنت مقبل على الله، ترجو عفوه وتخشى عذابه: «أستغفر الله».
- الإقلاع عن الذنب: فلا تصح توبة مع استمرار الذنب، إذ لا بد من الإقلاع عنه أولًا كشرط للتوبة.
- عزم على عدم العودة: «تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا»، أن يكون الإنسان من داخله عازمًا على عدم تكرار الذنب فى المستقبل، توبة صادقة، تنصحك بعد العودة من شدة صدقها، فالعزم هو أسباب التوبة، والذى يمنحك القوة من الداخل، وأنت تقول: أستغفر الله.
الجامع بين هذه الشروط الثلاثة، أنها جميعها فى القلب، فى أعماق الإنسان من الداخل، فالتوبة ليست مجرد عبارة مجردة ينطقها اللسان، بل هى عمل قلبى فى الأساس، يترجم إلى فعل، فإن لم يتحقق ذلك كانت التوبة منقوصة.
والعلاقة بين التوبة والستر علاقة عجيبة، فهناك رصيد من الستر لدى كل إنسان يحتفظ الله له به، يتناقص بفعل المعاصى كما يتناقص الماء من الكوب، شيئًا فشيئًا، حتى ينقضى تمامًا، فلا يبقى لصاحبه نصيب منه، أو يزيد هذا الرصيد بفعل التوبة والاستغفار، فيرخى الله ستره على العبد، ولا يفضحه أمام الخلائق.
يروى أنهم أتوا إلى عمر بن الخطاب، رضى الله عنه، برجل قد سرق، فقال هذا السارق: أستحلفك بالله أن تعفو عنى، فإنها أول مرة، فقال عمر: كذبت ليست هى المرة الأولى، فأراد الرجل أن تثار الظنون حول عمر، فقال له: أكنت تعلم الغيب؟ فقال «الفاروق»: لا، ولكنى علمت أن الله لا يفضح عبده من أول مرة، فقطعت يد الرجل، فتبعه على بن أبى طالب، رضى الله عنه، فقال له: أستحلفك بالله أهى أول مرة؟ فقال: والله إنها هى الحادية والعشرون.
لكن السؤال كيف نستمر فى منزلة التوبة، كيف نستمر فى صدق العزم على التوبة؟
المداومة على الاستغفار كل يوم، فقد كان رسول الله يستغفر الله فى اليوم مائة مرة، نسمعه فى المجلس الواحد يردد: أستغفر الله.. أستغفر الله.. أستغفر الله.. وكان من دعائه صلى الله عليه وسلم: «اللهم اغفر لى خطيئتى وجهلى، وإسرافى فى أمرى، وما أنت أعلم به منى، اللهم اغفر لى هزلى وجدى وخطئى وعمدى وكل ذلك عندى، اللهم اغفر لى ما قدمت، وما أخرت وما أسررت وما أعلنت، وما أنت أعلم به منى، أنت المقدم وأنت المؤخر وأنت على كل شىء قدير».
لو لم يبق من الاستغفار غير أنه يذكرنى بالتوبة لتبقى كل عمرك فى منزلة التوبة، لكن هذا كافٍ.. والتوبة بهذا المعنى صلح مع الله، وليست تأنيبًا وجزعًا.. حين تتوب فكأنك بذلك توقع عقد صلح مع الله، فإياك أن تتأخر عن ذلك.. يوم توبتك تنادى الملائكة فى السماء: اصطلح العبد على مولاه.. مرتين.. يوم توبتك عيد فى السماء تحتفل به الملائكة، فسارع من الآن إلى كتابة عقد الصلح مع الله، فإنه فى انتظارك.