رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

تجديد الخطاب الدينى ليس مهمة الشيوخ وحدهم


على الرغم من كل المناشدات والمطالبات، التى لا تنقطع، الموجهة إلى رجال «المؤسسة الدينية» بـ«تجديد الخطاب الدينى»، والتى يتردد صداها بين الفينة والفينة، لا تكاد هذه المناشدات وتلك المطالبات تجد صدىً، أو تثير حماسًا، ليس لدى رجال الدين أو أعضاء الجماعات الدينية ومن لف لفهم وحسب، وإنما أيضًا لدى قطاع ليس بالصغير من المواطنين المتدينين، العاديين، الذين أداروا الظهر لهذه الدعوة لأسباب عديدة، أهمها الربط العفوى، أو الموحى به، بينها، وبين العداء للدين، وقد ساعد «توقيت» طرح الدعوة لهذه القضية مع الحرب على الإرهاب المتسربل بدعاوى دينية، ما جعلها محل استهداف من أنصار الجماعات الإرهابية والمتطرفة، فضلًا عن أن إطلاق هذه الدعوة لم يشمل فترة إعداد واسع للمجتمع تُهيئه لقبولها، وللتفاعل الإيجابى معها، ويجنبها الكثير من الشبهات والمظان.
ولا شك فى إلحاح الحاجة لإعادة النظر فى مكونات ومضمون الخطاب الدينى الراهن، باعتباره ناطقًا بفهم البشر للدين السامى ومراميه فى لحظة تاريخية مُحدّدة، والمؤكد أن كثيرًا من مشتملات هذا الفهم تجاوزها الزمن، ولم تعد صالحة لعالم التعدُّد والتنوُّع القائم، والذى قرّبت ثورة الاتصالات بين معالمه وعوالمه، فقد أدى إغلاق باب الاجتهاد منذ قرون عديدة إلى شيوع خطاب جامد وفظ، يُشيطن المختلف فكريًا أو عقائديًا، ويكره الرأى الآخر، ويسارع إلى تكفير المخالفين، ويًمارس التمييز والتعصب فى مواجهة الأفكار والأديان والمذاهب المتباينة، ولا يتورع عن القتل والتخريب، تحت مزاعم «الجهاد» وغيرها من الأفكار والدعاوى الباطلة. واللافت أن أهل هذه البدع لم يردعهم أن يروا ماذا فعلوه بأوطانهم وبناسهم، وما ألحقوه ببلادهم من خراب ودمار، بل وما جروه على الدين نفسه من ويلات ومظالم، ليس أقلها الربط بينه وبين «الإرهاب» ربطًا متعسفًا، أساء إلى الإسلام الحنيف أيما إساءة، لسبب بسيط أنهم كانوا وأصبحوا أداة طيّعة فى يد من لا يريد الخير للدين ولا للدنيا.
بدايةً يجب التأكيد على أن قضية «الإصلاح الدينى» كانت مقدمة النهوض السياسى والاقتصادى والاجتماعى فى الدول الغربية التى تتبوأ مكانةً متميزة فى سُلم التطور الحضارى الآن، فبإنجازها تجاوزت هذه الدول أوضاعًا كانت أكثر ترديًا من أوضاعنا، تمثّلت فى عهود الظلام، ومحاكم التفتيش، والاضطهاد الدينى، وصكوك الغفران،.. إلخ، وأفسحت المجال لانطلاقة العقل الإنسانى الحر، المتحرر من الموانع والأثقال التى حاكها الإدراك البشرى وحدود التفكير الإنسانى النسبى، المحكوم بالزمان والمكان والظروف، من أجل إطلاق ملكة التفكير والإبداع، على النحو الذى برز فى ثنايا الثورة الصناعية وامتداداتها المبهرة حتى الآن.
والحق أن قضية «تجديد الخطاب الدينى» ليست قضية «رجال الدين»، أو مؤسساتهم وحدهم، أو فلنقل إنها قضية أخطر من أن تُترك لـ «رجال الدين»، أو مؤسساتهم وحسب، ولأنها قضية تشتبك مع الوعى والفكر والعقيدة والمشاعر، فهى تتماس مع كل المؤسسات والأنشطة والمؤسسات التى تلعب دورًا فى صياغة وتكوين وعى الناس وأفكارهم وعقائدهم ومشاعرهم.
أى أن الحديث عن «تجديد الخطاب الدينى»، لا معنى له، ولن يحقق أدنى تقدُّم، ما لم يكن مربوطًا برباط وثيق، باتخاذ خطوات عملية نحو «تحديث» مقومات «البناء الفوقى»، أى المكون الثقافى والتعليمى والإعلامى والفكرى للمجتمع. ذلك أن هذه الأقانيم الأربعة: «الوعى والفكر والعقيدة والمشاعر»، يلعب فى تشكيلها، وتوجيهها، وترسيخها، ما يتلقاه الفرد فى بيئته الأولى: الأسرة، وما يتعلمه فى مقاعد الدرس بمختلف درجاتها، وما يتسرب إلى أعماقه من البيئة والشارع، وما يتشربه من قراءاته، ويترسخ فى وجدانه من تجاربه ومعايشاته، وما أصبح ينصبُّ على مخه عبر أجهزة التلفاز، وما جدَّ عليها من آليات التواصل الحديثة كالتليفون المحمول، وشبكة الإنترنت، ومواقع التواصل الاجتماعى وغيرها.
والحاصل أنه إذا كان لنا أن نُطالب رجال الدين بتجديد خطابهم، فالأحرى ألا تنفصل هذه الدعوة، أو أن تكتمل هذه الدعوة، بالمطالبة بتحديث جذرى شامل لنظم ومضمون ومشتملات العملية التعليمية، من أجل إنتاج إنسانٍ جديد قادر على الفهم والتمحيص والنقد والتفكير الحر الخلاق، وكذا فإن جزءًا لا يتجزأ من هذه الدعوة بناء منظومة ثقافية مُحترمة، ذات أبعاد إنسانية شاملة، وغير مُسفّة، ومنفتحة على كل الأفكار والعقائد والدعوات والابتكارات، تحترم العقل وتقدر الاجتهاد، وتلفظ الجمود، وتخاصم التشدد، وأيضاَ بناء منظومة سياسية وإعلامية منفتحة لكل الآراء والتنوعات السياسية والفكرية، التى تؤمن بالحوار والتعددية والمشاركة والمواطنة، وقادرة على إدارة الاختلاف والتنوع الثقافى والسياسى، الذى يُزيد المجتمع غنىً وثراءً.
ولا يقل أهميةً عمّا تقدّم، من أن يشيع العدل بين الناس، ويزيد الاهتمام بأحوال ملايين الفقراء فى المجتمع، وأن تُعالج عن جدٍ أحوال أحزمة الفقر التى تحيط بمنتجعات ومستوطنات الطبقات المخملية، وأن يوضع حد للفجوة الخطيرة الاتساع بين مكونات المجتمع،.. إلخ. فلا شك أن تدهور مستوى معيشة ملايين المصريين، «الإحصاءات الرسمية تقول إن ثلثهم من الفقراء والمعوزين»، يُزيد من أسباب النقمة والغضب، ويُفسح المجال للضغينة والتعصب، ويُهيئ المناخ لإفراز إرهابيين جاهزين للقتل والتدمير.
إن مشكلة الكثيرين من أنصار «الخطاب» الجامد أنهم كما وصف أحد المفكرين النابهين: «مقتنعون بأن التقدّم إلى الأمام هو فى الرجوع إلى الخلف»! ولأن عقارب الساعة لا يمكن أن تعود للوراء، فلا مناص من تجديد «الخطاب المجتمعى» كله، على نحو ما اجتهدت فى شرحه وبيانه.