رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

سد النهضة والأمن القومى فوق «المماطلات» الإثيوبية


«أبى أحمد» ردد خلف الرئيس السيسى، بالقاهرة ١٠ يونيو ٢٠١٨، قسمًا بالحفاظ على حصة مصر من المياه، وعدم الإضرار بشعبها.. ربما كان صادقًا!، لكنه كان قد تبوأ رئاسة الحكومة الإثيوبية أواخر مارس، مدعومًا بأغلبية الأورومو والأمهرية، مُطيحًا بأقلية التيجراى، التى احتكرت السلطة منذ حكم زيناوى ١٩٩١، رغم أنها ٦٪ من عدد السكان، وتحوز ٩٥٪ من المناصب الرئيسية بالدولة.
بمجرد عودته لبلاده تعرض لمحاولة انقلابية فاشلة ٢٢ يونيو، أعقبها اغتيال سيمجنو بيكيلى مدير مشروع «سد النهضة» ٢٦ يوليو، ومحاولة أخرى لاغتياله ١٠ أكتوبر.. التيجرانية تحمل كرهًا تاريخيًا لمصر، وتعتبرها العدو المركزى، حتى فى كتب التاريخ.. المدافع التى غنموها فى معركة «جوندت»، إبان حملة الخديو إسماعيل، وضعوها تذكارًا بميدان أكسيوم، وأطلقوا اسم «جوندت» على أرفع وسام عسكرى، و«مبارك» تعرّض للاغتيال بأديس أبابا يونيو ١٩٩٥.. مواقع المسئولية وصنع القرار تكتظ بقاعدة واسعة من كارهى مصر.. تعرقل أى توافق ثنائى، وتسعى لإعاقة تنفيذ السد.
إثيوبيا جمدت عمل «مجموعة الدراسات العلمية» التى تشكلت لتقديم توصيات موضوعية لملء الخزان، وتنمية الموارد المائية.. اندلاع الثورة فى السودان وعزل البشير أوجدا مبررات لتجميد المفاوضات.. إضافة لتغيير إجراءات وعقود الشركات الأجنبية العاملة فى السد، وتنحية المتورطين فى الفساد، والمسئولين عن التأخير.. القلق دفع مصر لتقديم مقترح فنى لحل الأزمة يوليو الماضى، يقوم على التعاون فى ملء وتشغيل السد على مدار سبع سنوات، وزير الرى زار الخرطوم وأديس أبابا لعرضه، وطلب التوصل لاتفاق عاجل خلال اجتماع سبتمبر، لأن المكتب الفرنسى فى حاجة إلى عام بعد الاتفاق، لاستكمال دراساته، بينما يبدأ تشغيل السد وتوليد الكهرباء قبل نهاية ٢٠٢٠، ما يعنى أن «المماطلة» الممتدة منذ سبع سنوات، أضحت تشكل خطرًا داهمًا على مصالحنا القومية.
الخارجية أطلعت سفراء الدول الأوروبية على مستجدات الأزمة، وشكت من طول أمد المفاوضات، ومحاولة فرض رؤية أحادية.. وسامح شكرى أحاط وزراء الخارجية العرب بها، وطالب بموقف موحد من «مراوغات» إثيوبيا.. ووزير الرى حذر من تهديد أمننا الغذائى، لأن خفض ٢٪ من حصتنا يؤدى لبوار ٢٠٠.٠٠٠ فدان، تعول مليون فرد.. مصر تحشد الدعم الخارجى، لفرض حل وسط قبل تحول الموضوع إلى قضية أمن قومى «ملحة».. إثيوبيا أدركت ذلك، فتراجعت خارجيتها مؤكدة أن ملء الخزان قد يستغرق ٥ أو ٦ سنوات.. لكن ذلك لا يكفى.
اجتماع القاهرة ١٥ و١٦ سبتمبر الجارى لم يتطرق للجوانب الفنية، واكتفى بمناقشة جدول الأعمال والجوانب الإجرائية!، نتيجة لرفض إثيوبيا مناقشة المشروع المصرى، وتقرر عقد اجتماع للمجموعة العلمية بالخرطوم ٣٠ سبتمبر- ٣ أكتوبر لبحثه، يعقبه لقاء وزراء المياه ٤ و٥ أكتوبر لإقرار مواضع الاتفاق على قواعد الملء والتشغيل.
استكمال أسباب التشدد الإثيوبى يشير بالضرورة لزيارة «أحمد» لإسرائيل مطلع سبتمبر الجارى، وتأكيده عدم الالتزام بقواعد ملء وتشغيل السد، الواردة بإعلان المبادئ مارس ٢٠١٥.. المحللون فسروه «استقواء» بإسرائيل، بعد نشر موقع «ديبكا» المرتبط بالمخابرات، أن طواقم من شركة «رفائيل» للصناعات العسكرية نصبت أنظمة دفاعية Python and Derby حول السد، اعتمدت على شاحنات من وحدة صواريخ الصناعات الجوية، وأنظمة رادار من شركة «التا».. لكن الصناعات العسكرية الإسرائيلية نفت ذلك، والحكومة أكدت أن الاتفاقيات اقتصرت على التعاون الاقتصادى، ونفت اتخاذ أى خطوات تمس علاقاتها بمصر.. موقف جيد، لكنه يفرض مزيدًا من التدقيق والمتابعة.
والحقيقة أن الزيارة تمت تلبية لمسعى إسرائيلى، ضمن حملة الدعاية الانتخابية التى نفذها نتنياهو، لاحتواء التداعيات السلبية للاحتجاجات العنيفة ليهود الفلاشا «٢٪ من سكان إسرائيل»، بعد مقتل شاب بمعرفة شرطى فى تل أبيب.. ارتداء «أحمد» المسلم غطاء الرأس اليهودى أغضب العرب والمسلمين، لكنه وجه رسالة للفلاشا بإغلاق الملف، تجنبًا لتعكير صفو العلاقة مع الحليف الإسرائيلى، الذى قدم الدعم اللوجستى والمالى والفنى للسد، وما زال يعول عليه لاستكماله. دور السودان فى الأزمة كان أحد مبررات التشدد، إثيوبيا تعتمد اقتصاديًا على موانئه، وتستورد منه بين ٥٠٪ و٨٠٪ من الوقود.. البشير دعمها خلال المفاوضات، تحقيقًا لمكاسب إضافية، ولإضعاف الموقف المصرى، والإبقاء على خلافاته مع إثيوبيا.. بعد سقوط البشير لعبت إثيوبيا الدور الرئيسى فى الوساطة بين المجلس العسكرى وتحالف قوى الحرية والتغيير، للاحتفاظ بالسودان كصديق، إن لم يظل حليفًا.. ضمانًا لاستمرار اتفاقيات التعاون، خاصة اتفاق الدفاع المشترك، وشراء السودان الكهرباء المولدة من السد، والتى بات يهددها انفتاحه على مصر، وتوقيعه الاتفاق الربط الكهربائى معها.. ولعل ما حظى به «أحمد» من ترحيب الجمهور السودانى، والقادة الأفارقة، أثناء مراسم توقيع الاتفاق النهائى للإعلان الدستورى، يؤكد نجاحه فى تحقيق ذلك. التشدد الذى تمارسه إثيوبيا تجاه مصر، يتناقض مع سياسة «صفر مشاكل» التى يتبناها «أحمد» فى علاقاته الخارجية، والتى يطبقها فقط مع حلفاء مصر بالمنطقة!، وقع مع إريتريا الجارة اللدود اتفاقية جدة للسلام سبتمبر ٢٠١٨، لينتهى أطول نزاع عرفته القارة الإفريقية.. وقام مع أوغندا، دولة المنبع الآخر للنيل، بدور وساطة بين الرئيس سلفا كير وقائد المتمردين رياك مشار، لإنهاء النزاع جنوب السودان، حاضنة النيل الأزرق، الذى تعول مصر على تنمية حصتها منه، واستضاف توقيع اتفاقية السلام بأديس أبابا.. ديناميكية الدبلوماسية الإثيوبية تلفت النظر، واستهداف مراكز اهتمام المصالح المصرية، لتحييدها، يثير الدهشة، والإيقاع الرخيم لحركة الخارجية المصرية يفرض المراجعة.
سياسة استهلاك الوقت الإثيوبية ربحت شهورًا نتيجة تجميد مصر المفاوضات نوفمبر ٢٠١٧، ردًا على رفض إثيوبيا والسودان تقرير المكتب الاستشارى الفرنسى بشأن أعمال ملء السد وتشغيله، استفزاز مصر حاليًا يراهن على غضبها، لاستهلاك المزيد، مما يعتبر مضيعة لمصالحنا.. مصر ينبغى أن تبادر بالدعوة لقمة ثلاثية، لتفعيل الاتفاق الثلاثى فبراير ٢٠١٩ بإثيوبيا، والذى يقضى بملء خزان السد بـ٤٥ مليار متر مكعب خلال ثلاث سنوات، تتحملها مصر والسودان مناصفة، بواقع ٧.٥ مليار م٣ سنويًا لكل منهما، فهو ينتزع اعترافًا بحصتنا السنوية «٥٥.٥ مليار م٣»، ويختزل أضرار عملية الملء فى توقف زراعة الأرز، واستيراده بتمويل من البنك الدولى، خصمًا من عائدات كهرباء السد.
الحقيقة الأهم التى نغفلها، هى أن سد النهضة جزء من مشروع أكبر، يشمل سدودًا أخرى مكملة «كارادوبى، بيكو أبو، مندايا» سعتها الإجمالية ٢٠٠ مليار متر٣، يستهدف السيطرة على كل واردات المياه، وإعادة تصديرها بالمقابل المادى.. مشروع جنوب شرق الأناضول، وسد أتاتورك الكبير بملحقاته جفَّف نهرى الفرات ودجلة جزئيًا، وحرم سوريا والعراق من معظم مواردهما المائية، متابعة الإنشاءات على نهر النيل ضرورة حتمية، تجنبًا لمفاجآت، لن تدع مجالًا لتفاوض، أو وساطة، أو مجاملات على حساب أمننا القومى.