رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الأمانة التى نفتقدها فى حياتنا


القيمة الحقيقية للإنسان تكمن فى المبادئ السامية التى يعتنقها وينادى بها دون ملل أو كلل أو خوف أو تردد، ويتمسك بها حتى النفس الأخير مهما واجهته الصعاب والمعوقات، وأيضًا تكمن القيمة الحقيقية فى تمسكه بالأمانة والنزاهة والشرف. فالمال لا يعطى قيمة للإنسان، والمركز العلمى أو الاجتماعى أو السياسى أو الدينى لا يعطى قيمة للإنسان. من هنا فإن تقدم الشعوب يقاس بمدى تمسكها بالمبادئ وانحيازها نحو الأمانة والنزاهة.
أذكر عندما كنت طالبًا لدرجة الدكتوراه بإحدى الجامعات الكندية فى الفترة «١٩٧٦–١٩٨١»، كان المشرف على رسالة الدكتوراه أستاذ رياضيات فاضل من أصول أيرلندية، وفى أحد الفصول الأكاديمية الصيفية كان يقوم بتدريس مقرر فى علم حساب التفاضل والتكامل، وكنت أقوم بمساعدته بعمل مشابه لوظيفة معيد بجامعاتنا المصرية. كان من بين مجموعة الطلاب الذين يقوم بالتدريس لهم ابناه التوأم وما زلت أتذكر اسميهما «كريستوفر» و«أستيفن». اعتاد الأساتذة بعد الانتهاء من تصحيح الامتحانات النهائية أن يضعوا على باب حجرة مكتبهم النتيجة النهائية. وعندما طالعت النتيجة النهائية لذلك المقرر الدراسى وجدت أن أحد ابنيه اجتاز المقرر الدراسى بتقدير متوسط والابن الآخر رسب! صدقونى الأستاذ الفاضل والأمين والنزيه لم يتردد فى أن يعطى ابنه، بل وابنه المحبوب، تقدير راسب، لأنه لم يتمكن من تحصيل المادة العلمية. أقول هذا وأنا كلى أسف وحزن وأسى على ما أراه داخل مصر فى جميع المؤسسات الجامعية والتشريعية والقانونية والدينية، الأمانة الشكلية والمصطنعة والمزيفة عندنا تنحصر فقط فى مجال الوعظ والإرشاد والتوبيخ من على المنابر، ولكن ليس للسلوك اليومى. فإن لم تكن هذه المبادئ السامية روحًا وحياة، فأى مبادئ أخرى تكون لها قيمة حقيقية؟
أستاذ الجامعة الذى يكذب ويختلس بحوث غيره كيف يكون أمينًا فى وضع الامتحانات وتصحيحها ووضع النتيجة النهائية؟ وكيف يكون أمينًا فى تدريس المقرر الدراسى كما يجب؟ الصحفى الذى يدعى بالكذب بعض الأخبار الصحفية ويتسبب فى مشاكل عدة كيف يصدقه الناس بعد ذلك؟ رجل الدين الذى يقوم بالتزوير العلنى والخداع داخل بيت الرب، كيف يواجه شعبه بعد ذلك؟ وكيف يحث شعبه على التمسك بالفضائل؟ الوزير الذى يصدر تصريحات كاذبة وخادعة كيف يصدقه الناس بعد ذلك؟ منذ بضع سنوات حدثت مشكلة مع أحد رؤساء الولايات المتحدة الأمريكية، لم تكن المشكلة التى أثارت الرأى العام الأمريكى فى ذلك الوقت هى المشكلة الأخلاقية التى ارتكبها «لأن هذا أمر شخصى خاص به وبكل فرد» لكن المشكلة كانت فى أن أقواله كانت كاذبة! لأن الذى يكذب يسمح له ضميره أن يفعل كل شىء! مشكلاتنا الأخلاقية فى مصر- على جميع المستويات- تكمن فى الكذب والتزوير، فالذى يجعل الإنسان يسقط فى الرياء هو أنه يريد أن يفعل شيئًا يود أن يخفيه
أعرف مهندسًا ناجحًا فى مجال هندسة السيارات بإحدى الشركات الكبرى بالإسكندرية، هذا المهندس عندما كان طالبًا بالفرقة الإعدادية، حدث فى امتحان الشهادة الإعدادية فى أثناء امتحان مادة من المواد أن مراقب اللجنة سمح للطلاب بالغش!- ربما لصعوبة الامتحان أو غير ذلك– لكن هذا الطالب الأمين رفض أن يشترك فى هذا العمل غير الأخلاقى، وقال فى نفسه: «كيف أصنع هذا الشر العظيم وأخطئ إلى الله؟» وفضّل أن يحصل على درجات أقل من أن يخالف ضميره ويحصل على درجات أعلى. الآن هو مهندس ناجح جدًا وقد سانده الله فى جميع خطواته، بل إنه يقوم بتدريب العديد من المهندسين الإنجليز واليونانيين والأفارقة، سواء بسفره إليهم أو بحضورهم إليه. هذا نموذج طيب من الشباب المصرى الناضج والأمين. للأسف معظم الذين ينادون بالتعاليم السامية والفضيلة يصنعون شرورًا عظيمة من غش وتدليس وتزوير نتائج امتحانات وتزوير نتائج انتخابات! ولا يعلمون أن هناك رقيبًا يراقب جميع تصرفاتهم.