رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

تخويف مَنْ يجرؤ على الحفر تحت خنادق الدين العتيقة


«الاقتصاد محرك التاريخ».. إذا سلمنا بهذا علينا أن نتساءل: مَنْ الجندى المجهول الذى على كتفيه يصعد الاقتصاد؟ إنه «الفكر»، الذى ينتج القيم ويحدد الأولويات ويتبنى السياسات، هو القوة الدافعة التى تقف أمام الاقتصاد وليس خلفه، هو الدليل والخريطة التى توجه وتقود.
إن أوجه الإنفاق للفرد أو الجماعات تتحدد أساسًا بالعقلية التى تستهلك الأشياء وليس بالفلوس المتوفرة، وبالتالى فإن الصراعات السياسية والاقتصادية على مدى التاريخ وحتى الآن هى فى الأصل صراع بين أنواع من الفكر، والفكر هو الفلسفة، هو «طريقة التفكير»، أو «كيف نفكر».
ومن الطبيعى، ومن المنطقى، أن تعبر السلوكيات أو الأفعال عن اختيارات «طريقة التفكير» وانحيازات «كيف نفكر»، وينتج عن هذا ما نسميه الثقافة «الفكر+ الفعل».
كل فرد إذن له ثقافته، وكل مجتمع له ثقافته، وهذه الثقافة فى حركة مستمرة تلائم تغيرات الحياة، وبالتالى نحن نرى أن الثورة «الدينية» التى نحتاجها الآن بعد ثورتين عظيمتين، وبعد تفشى الإرهاب المسلح هى ثورة «فكرية» فى المقام الأول، أى ثورة فى الثقافة، أى فى «طريقة التفكير»، أو «كيف نفكر»؟
إن الثورة الدينية تعنى «التغيير الجذرى» فى نظرتنا إلى الطقوس الدينية، ومفهومنا عن حرية الاعتقاد الدينى، وتصورنا لمفهوم الله وللحريات العامة والخاصة، وليس مجرد إعادة ترتيب الأولويات، وتغيير وجوه الشيوخ والفقهاء والأئمة، وحرق الكتب التكفيرية، والإكثار من الجرعات الدينية فى الإعلام، والرقابة على المساجد والجوامع.
كلها سلوكيات قد تكون مطلوبة لكنها غير كافية، وهى أشبه بـ«ترقيع» الثوب القديم بينما نحن نحتاج إلى «ثوب» جديد.
إن الثورة الدينية التى نحتاج إليها لا بد أن تجيب عن أسئلة أساسية: هل الدين فى خدمة الحياة، أم الحياة فى خدمة الدين؟ هل الدين علاقة شخصية بين الإنسان وربه، لا أحد له الحق فى الرقابة عليها.. أم علاقة تتدخل فيها أطراف عديدة؟ هل نحن جادون فى تحرير النساء من القهر الذكورى؟ هل نؤمن بالدور الكبير للفنون والإبداع فى تغيير الحضارات؟ هل تحرص الدولة المصرية على تأمين الحريات الخاصة والعامة؟ وإلى أى مدى هى حريصة على المواطنة بإلغاء خانة الدين من جميع الأوراق وإقرار الزواج المدنى الموحد بجانب الزواج الدينى أو بديلًا عنه؟، هل نحن مستعدون لمناقشة الثوابت والمسلمات والمقدسات؟
البعض يريد ثورة دون المساس بالثوابت، ولكن هذا مستحيل استحالة مَن يريد النزول بالبحر دون أن يبتل أو كمن يريد الطيران دون أجنحة، بالعكس إن الثورة تحديدًا تعنى تحدى الثوابت وعلى الأخص الثوابت الدينية.
ما زالت الغالبية من الناس ترفض أى جدل عابر يسأل «لماذا» فيما يرتبط بالثوابت القوية أو حتى الثوابت الهشة الدينية.
بل إن كلمة «لماذا»، فى أى قضية سياسية أو ثقافية أو أسرية، تعتبر من الكلمات «غير المرغوب فيها»، و«مشبوهة»، و«سيئة السمعة».
نخلص من هذا إلى أن «التغيير» أصلًا فى أى «فكر» أو «سلوك»، مع الأسف، «غير وارد» للغالبية، أو على الأقل هو طريق مفروش بالأشواك والألغام.
لقد نجحت التيارات المتأسلمة الطامحة للحكم السياسى فى إلغاء العقل، وفى تشويه قدرته على البحث العميق وربط الظواهر بعضها ببعض، وتخويف كل مَن يجرؤ على الحفر تحت خنادق الدين العتيقة.
وكانت النساء البداية، فمن المعروف أن تخلف المجتمعات يبدأ بتخلف المرأة، وتقدم الأمم يبدأ بتقدم المرأة، يكفى جدًا إذن كما فعلت التيارات المتأسلمة ذات الأسماء الكثيرة أن تستهدف النساء وتعمل على شدهنّ إلى الوراء، حيث عصور الاستعباد والسلف الغارق فى ظلامه وذكوريته.
وفعلًا لو نظرنا إلى المرأة المصرية الآن نجد الكوارث المخططة بعناية فى التفكير وطريقة اللبس والهدف من الحياة ونظرتها إلى نفسها وإلى زوجها وطريقة تربيتها للأطفال فى الأسرة، أسرة إخوانية سلفية متشددة متطرفة عنصرية ذكورية خارج مسار التقدم وأى إمكانيات للنهضة.
وبكل أسف فإن الحديث عن تجديد الفكر الدينى سيظل يفشل ويعيد إنتاج الفكر المتخلف القديم طالما أنه لا يمس «تغيير المرأة»، ولا يستهدف مناقشة موروثات قبيحة مثل «تقديس الطاعة»، و«قوامة الرجل»، و«إذن الزوج».
الآن قرأنا عن تغيير شامل فى منظومة التعليم كلها التى تشمل المناهج والمقررات، وربط التعليم بحاجات السوق، وإدخال التعليم الإلكترونى الحديث،
كل هذا «خير وبركة»، لكننى أرى أنه دون مقرر أساسى فى مناهج التعليم يبدأ من الصغر اسمه مادة «مناقشة الثوابت»، و«المسلمات»، خاصة وبشكل مكثف فى الثقافة الدينية، لن يتغير شىء جذرى فى طريقة التفكير التى هى أصل الداء.
ولا يمكن أن نتوقع تجديدًا فى الفكر الدينى ونحن لدينا شىء اسمه «ازدراء الأديان»، و«التطاول على الثوابت»، سيف مسلط من قبل المزايدين على الدين والتدين والفضيلة وحماية الإسلام، بعضهم عاطل عن العمل والمواهب، يرفع هذه القضايا للشهرة وإثارة الإعلام وإلهاء الناس وتشويه أصحاب التنوير والتثوير وقبض الفلوس من القنوات الفضائية، وبعضهم مأجور تستخدمه وتدفع له تيارات الدولة الدينية وحلفاؤها فى الداخل وفى الخارج.. لماذا نسمح لهم؟
من بستان قصائدى
وأنا مرتاحة فى عينيه أسمعه يهمس:
«حتى وانتى عجوزة وكركوبة ومكرمشة
هافضل أحبك وأدلعك يا طفلتى الوحيدة»
كان القدر له بالمرصاد
خطفه فى ريعان الشباب
فليس مسموحًا أو مقبولًا
أن يحدث مثل هذا الحب
على كوكب الأرض