رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

صينية الحِنَّاء

جريدة الدستور


منذ أن فرغنا من صلاة العصر و«عم سعد» عاكف على إعداد الحناء، عهد إدارة دكان الأعشاب والتوابل المقابل لبيتنا إلى ولده، وجلس على كرسيه المصنوع من الخيزران وشرع فى سكب خليط الحناء فى الصينية، يشكله بفن ومهارة معروف بهما فى المنطقة. اختصنى اليوم وحدى بتجهيز صينية الحناء كهدية للعرس، ورفض أن يشغل نفسه بأى أمر آخر. أتابعه من الشرفة مع أمى. التصميم الفريد يظهر شيئًا فشيئًا. صار أشبه بكعكات العرس متعددة الطوابق. أدركت اليوم سر صينية الكعك التى كانت تصنعها له أمى يوم الاحتفال بعيد «شم النسيم» (اليوم الوحيد فى العام الذى يغلق فيه عم سعد دكانه ويتوجه مع أولاده مثل الكثير من أهل دمنهور إلى مدينة دسوق لقضاء اليوم على شاطئ النيل، يتنزهون بين المزارع الخضراء ويتناولون أسماك «الفسيخ» المملحة). كنت أتعجب من حرص أمى على تلك العادة، بل إنى أصبحت ألومها وأسألها لِمَ لا تصنع له زوجته الكعك؟ كانت ترد علىّ فى مودة «يا حبيبى الناس لبعضها، غدًا هو من سيصنع لك صينية الحناء يوم فرحك».. وقد كان.
انطلقت الزغاريد، فأدركتُ أنها الحناء الموعودة. اندفعتُ إلى الباب أتخطى بصعوبة الأصدقاء والجيران والأقارب الذين امتلأت بهم شقتنا الكبيرة. وجدتُ عم سعد يحملها بنفسه عبر درجات السلم. رأيتها مهيبة الشكل، فقد غرس فى جسدها البنى عددًا كبيرًا من الشموع الملونة والورود النضرة. تحاول أيدى الأطفال أن تلمسها أو تتخطف أجزاء منها عبر رحلتها من الشارع إلى الشقة، وهو يدافع عنها بالسباب والركل.
تناولتُ الصينية بعد أن نادتنى جارتنا أم نصر، ثم راحت تنشد بعض الأغانى وتصفق بحماس ومعها عدد من النساء: «والله لأغنى لك يا عريس يا غالى.. والله لأغنى لك وأسهر الليالى».
ويبدو أن أمى التى كانت جالسة فى هدوء وسكينة لازماها طوال عمرها قد تأثرت بما يجرى، فقامت نحوى بجسدها الهزيل ويديها الرقيقتين ترفع الصينية فوق رأسى لنمسك بها معًا. أحاط الحاضرون بنا فى حلقة متماسكة. بدأنا ندور بالصينية. التقت عيناى بعينيها الدامعتين. بدا المشهد كدوران راقصى المَوْلَوِيَّةِ فى حضرة الأولياء، نتحد كجرم سماوى يسبح فى فضاء سرمدى، نتعدى حدود الزمان والمكان، تتراقص أضواء الشموع، وتعبق رائحة الورود الروح الهائمة. أنظر إلى دموعها فأرى يدًا مازحة تدفع طفلًا صغيرًا فى الهواء فيتهلل من البهجة. تصرخ الأم من الفزع وتحتضنه معلنةً أنها تريده جوار قلبها على الأرض، ثم يأتى الطفل وقد أضحى صبيًا تطير خطواته فرحًا بتفوقه الدراسى، ولا يرى فى الكون غير أمه التى تتلقاه بين ذراعيها وترفعه للسماء من الغبطة، كما رفع رأسها من الفخر أديبًا شابًا وقصته الأولى تزين صفحات المجلة الشهيرة. لكن الصغير الذى جرب ذات نهار الطيران، يأبى أن يستقر جار قلبها العليل ويحلق فوق أرض بعيدة. تسأله كل ليلة: «هل وجدت هناك من يحبك مثلى؟ ألم تَشْتَقْ إلى أطباق حلوى القرع العسلى التى كنت تلتهمها مع أقرانك؟ مازالوا يتوافدون على غرفتك، أجلسُ معهم أمام مكتبتك الصغيرة، أراك فى أعينهم، وأسمع صوتك المتحمس فى حكاياتهم ثم يرحلون وأمكث وحدى أشمُ رائحتك فى كتبك التى أنفض عنها غبار الغياب ».. ولا يجيب. هل أَنِسَ الغريب غربته؟ ومن يقود موكب الرحيل؟ تترك له رسالتها الأخيرة «احذر يا صغيرى أن تهرم فى أرض لا تألفها عظامك»، وتنسل فى خفة من أسفل الصينية، خيط من نور يفر إلى السماء، ويلحق بها عدد من الموجودين فى الصالة.
***
يزداد ثقل صينية الحناء، تكاد أن تميد بى قدماى، ينضم لى بروحه المرحة، يربت على يدىّ «مبارك ليلتك يا عريس». أردُ عليه فى امتنان: «العقبى لأولادك». وتنطلق الزغاريد، وندور مرة أخرى معًا فنلحق بأيام الصبا. يفتح له المراهق أسرار مغامراته، يفضى إليه بنزواته وانكساراته، فيأخذه بعطف إلى النضج ويغدق عليه بخبرة السنين «صدق من قال إن الخال والد» يجمع بين حكمة الأب وحنان الأم. يدفع الصبى وهو ممتطٍ حلمَ طفولته، دراجته الصغيرة، فى ليالى الشتاء الدافئة. يحمله بزهو فوق كتفيه عند تخرجه فى الجامعة، ثم يعبر فى صمت نحو خيوط النور.
***
أشعرُ الآن بثقل الحِمْل، ينصرف الناس من حولى، يسود الهدوء جنبات شقتى الجديدة، أدور ببطء، يشدنى الحنين إلى اللوحات والصور القديمة المعلقة على الجدران، أبحث عن أصوات محبة تأتى من قريب، أنظر أسفل قدمى لأرى صبايا فاتنات يتمسكن بملابسى، أقفُ فى سكينة فيتعلقن بخصرى، ترتفع أناملهن الرقيقة إلى صينية الحناء، يغدقن بها على كفوفهن المرحة، يخضبن شعيراتى البيضاء، يُلَوِّنَّ أيديهن وأرجلهن، يخف الوزن من فوق رأسى، تعود الصالة تزخر بالأقارب والجيران والأصدقاء، وتعلو الزغاريد.