رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الحيوان الأخرس

جريدة الدستور


عندما رآها فى قميص النوم الأبيض الذى يكشف كل تفاصيلها البديعة المتناسقة، لم يدرك هل هى بيضاء حقًا أم قمحية؟
كانت تشع بياضًا بلون اللبن تحت الإضاءة القوية للمبات النيون المستديرة فى الطبق الذى يتوسط سقف الغرفة التى يتنفسان فيها معًا على السرير المنتفخ بالمراتب القطن العالية التى لم ينم عليها أحد من قبل، أخذ يتنقل بعينيه باندهاش على البدن المتناغم، وعيناه تلمعان بالحرمان والجوع، لم تلمس يده جسد امرأة غريبة عدا المداعبات الساذجة المحدودة مع جيهان، وغرام الأيدى والأصابع مع سميحة، كان دائمًا يتمنى تحقيق العلاقة الكاملة ولم يعش هذه التجربة أبدًا.

وقعت أصابعه فى كفوف النساء المتسولات اللاتى يقفن على باب مخزن الأسماك ويسألنه حاجة لله فيعطى كل سائلة جنيهًا حسب تعليمات الحاج مدحت، يتم فك مائة جنيه جنيهات معدنية توضع فى طبق بلاستيك، وكلما مر سائل أو سائلة يعطيه فايز جنيهًا، وفى الكلية لم يقم أى علاقة مع أى فتاة زميلة، كانت منى عروسة متوسطة الجمال، قصيرة القامة، تملك جسدًا متناسقًا مكتنزًا بجمال خاص، خبأت لعريسها مفاجآت جميلة تحت ثيابها المحتشمة فلم ير منها إلا كعبيها وكفيها ووجهها الحنطى الفاتح فى الشتاء والأسمر فى الصيف منذ طفولتهما معًا، كانت تتمدد على فراش العرس بقميص أبيض قصير ينحسر عن مواضع حسنها، تضع يديها على بطنها فى توتر وقلق ومستسلمة تنتظر فارسها الذى اختارته بكل كيانها، لم يلمسها رجل أبدًا، ولم ترتكب أى حماقة صبيانية ولا دخلت مغامرة عاطفية ولا تعرت أبدًا إلا عندما تستحم، تعشق قمصان النوم وزجاجات العطر المميزة وآخر صيحة فى المكياج والموضة، لا تمتلك أى خبرات جنسية إلا نصائح أمها عن الجماع والزواج، قبلاتها الوحيدة فى حياتها كانت يوم حادثة الفسيخ، ظل يتأملها عدة دقائق متفحصًا بعينين محرومتين جائعتين صدرها الذى يعلو ويهبط مع أنفاسها المتوترة وصمتها التام، منبهرًا بجمال تفاصيلها، كان يرتدى بيجامة عريس بيضاء بعد أن خلع بدلة الفرح المتعرقة جدًا واستحم، أحس بأن الإضاءة تسبب له توترًا عاليًا لكنه لم يشأ حرمان عينيه من تأمل تفاصيلها الجميلة، قال لها: أنت جميلة وبيضاء جدًا، وردت عليه مبتسمة بعينين سعيدتين وخجل بناتى نشر حمرة الورد فى خديها: بحبك.

كانت مستغرقة جدًا بالتفكير فى لحظة اقترابه منها لتنتقل من دنيا البنات لعالم النساء، هى لا تحب لون الدماء، لا تشاهد ذبح العجل على سطح البيت كل عام فى عيد الأضحى، تصرخ إذا رأت صرصارًا، أو احتكت بساقها قطة جذبتها زفارة السمك عندما تضع مخلفات الأسماك أمام باب الشقة فى شنط بلاستيك، تتجمد من الرعب لو رأت برصًا صغيرًا يزحف على الحائط، تحير العريس هل يصعد إلى الفراش أولًا أم يخلع بيجامته أولًا، كان ينتظر كلمة تشجيع منها، ينتظر أى حركة أو إشارة تلهمه التصرف الصحيح، لكنها كانت تتصرف بخجل بلا حركة بلا كلمة بلا إشارة، فك فايز أزرار البيجامة، أحست بخجل ودون أى وعى منها نظرت بتحقق إلى المنطقة التى أصابها الطلق الخرطوش فأحست باطمئنان وزال توترها ورعبها من فكرة أن إطلاق النار على زوجها تسبب له فى عجز جنسى.
قال لها: مبروك يا عروسة، لم يقبل فتاة أبدًا طيلة عمره بعشق إلا هى ذلك اليوم، يوم الفسيخ.
دقيقة فقط التى احتملها، شعر بخجل وحرج رهيب وهو يتراخى ويذبل، نام على ظهره وحدق فى السقف وقال لها: مبروك يا عروسة، مبروك يا مونمن، قالت: الله يبارك فيك يا فايز، قام وجلس على الفوتيه بجانب السرير وأشعل سيجارة.
كانت قطرات دم قليلة لا تكاد تملأ فنجان بن، كشف صينية الأكل وبدأ يأكل ثم اكتشف أنه لم يعد يعيش وحيدًا فرفع صوته لزوجته فى الحمام: أسرعى يا منى سألتهم الطعام كله بدونك، كانت تغتسل بمياه دافئة وقد ذهب رعبها إلى الأبد، لم تعد خائفة من ذكورة الرجل، دقيقة واحدة من الألم، ومع مرور الدقائق شعرت بتحسن، كانت تعيسة وحزينة، لأن مشاعرها لم تتحرر، كانت تتمنى أن تقول لزوجها: أنا أريد.

كانت تتمنى أشياء كثيرة بقوة من حبيبها، لكن خجلها وتربيتها المحتشمة منعاها من النطق، تحممت بماء دافئ ولأول مرة تشعر بأنها أصبحت تمتلك شيئًا جائعًا ينبغى أن ينال حصته من الطعام الوفير كل يوم، إنها الآن تمتلك حيوانًا أخرس يجب أن تصغى لصوته الخفى وتفهم رسائله المتعددة.
عندما خرجت من الحمام كانت أنثى جديدة تحمل جسدًا لديه حقوق ومطالب، مشت برفق كجريحة جديدة وجلست تأكل مع زوجها الذى كان منهمكًا فى أكل الحلوى، البسيمة والهريسة والبقلاوة، بعد أن شبع من الجمبرى والبطارخ والحبار، أما هى فأكلت حمامة والقليل من الشوربة والأرز وقطعة بسيمة بالبندق والسمن البلدى، كانت ترتدى الروب الأبيض على قميص أحمر، علمتها أمها أن تستحم وتتعطر وتبدل ألوان ملابسها، فقد أنفق الحاج مدحت مبالغ كبيرة لتجهيز منى أحسن جهاز، قال لها: أكملى أكلك يا عروسة، قالت: الحمد لله شبعت يا فايز، فطلب منها أن تعد له الشاى، عندما وقفت ومشت إلى المطبخ، ببطء غير مقصود، ورآها تسير أمامه، تدفق الدم فى جسده كله، وألهبه الحنين للاقتراب مرة أخرى، لم يستطع الصبر قام متوجهًا إلى المطبخ وهى أمام الحوض تغسل يديها من أثر زيت الطبخ وسمن الحلويات، وقال لها: بحبك يا منى، بدأت مشاعرها تتحرر أرجعت رأسها للخلف، شعرها المبتل أنعش روحه، رائحة عطرها الفواح أشعلت النار فتدحرجت كالكرات الثائرة فوق أرضية المطبخ.
كانت تكتشف كل نصف ساعة سرًا جديدًا فى جسدها لم تعرفه من قبل.
كانت تنتظر غليان الماء لتعد كوبين من الشاى وهى تغلى مثله، كانت تشتعل حنينًا وتريد المزيد، خرج فايز من الحمام وهى تذّوب السكر فى الشاى، قدمت الشاى لزوجها، كان رغم لذته العارمة والفرحة بجمال زوجته كان مغتمًا، لأنه لا يحتمل البقاء إلا دقيقة أو دقيقتين، كان مهمومًا يستغرق فى التفكير عن وسيلة تمنحه المزيد من الوقت، وكانت منى تنبهر بجسدها الصامت الذى تحرر فجأة وأصبحت لديه رغبات محمومة، تحممت العروس وارتدت قميصًا أسود وروبًا برتقاليًا، تركته مفتوحًا كى لا تدفىء نفسها ثم تبترد، كان مستلقيًا على ظهره فى الفراش يتشمم القماشة الملطخة، وعندما دخلت الغرفة أحس بحرج ووضعها مكانها على الكوميدينو، نظر إلى عروسه فى القميص الأسود القصير، فتوهم أنها بالفعل أكثر بياضًا من اللبن، تجاهلت ما رأته ولم تنطق، لكنها تعجبت كثيرًا وشعرت بغرور يجتاحها، جلست على كرسى التسريحة أمام المرآة، فتحت علبة مكياج، تخرج الأدراج منها كمدرجات بعضها فوق بعض، طلت شفتيها، تكحلت، دلكت وجهها ورقبتها بكريم بديع الرائحة كأنه مزيج من جوز الهند والقرنفل والفل، تعطرت بعدة زخات من زجاجة عطر بدت فى أنف فايز باهظة الثمن، عندما فاح الشذى فى الغرفة، شعر برغبة جامحة فى معانقتها، فنهض من الفراش فجأة واقترب منها لكنها قفزت من فوق الكرسى واندفعت حتى وقفت بالباب، نظر إليها وسال لعابه وانفرجت شفتاه ودق قلبه بعنف، هو الآن ذئب جميل وهو يضع يديه على الكرسى الخاوى، نظر لنفسه فى المرآة بإعجاب، حوّل عينيه باتجاه عروسه، كانت مستعدة للهرب والمراوغة، اندفع نحوها بطريقة تمثيلية، أراد مطاردتها قليلًا قبل الإمساك بها، اندفعت باتجاه غرفة الصالون، أمسكها من الروب من ظهرها، تركته له، احتضنه وتشممه وقبّله وقذفه على كرسى التسريحة، ظل يجرى وراءها وهى تهرب منه، تدور حول الفوتيهات والكنبة فى غرفة الصالون الواسعة، دوخته وهو يحاول الإمساك بها، هكذا أوهمها، غامر، صعد قافزًا فوق مقعدة الكنبة فصرخت: يا لهوى يا فايز وجرت باتجاه الحمام.
فصل من رواية «الحيوان الأخرس»