رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

فى المطعم الهندى

جريدة الدستور



يؤرقنى هاجس، أننى فى اللحظة التى أصل فيها لباب البيت، سأفتح حقيبتى فلا أجد المفتاح، رغم أن هذا الموقف لم يحدث أبدًا.
فى المرات القليلة التى فقدت فيها مفاتيحى، لاحظت ذلك قبل الوصول للبيت بفترة كافية لتغيير المسار وإيجاد حل بديل، أما أن أقف على عتبة البيت منهكة القوى بعد رحلة طويلة أو عمل شاق، أفتش فى الحقيبة وأقلبها بيأس، فهذا ما لم يحدث، لكن المشهد ظل يؤرقنى لدرجة الوسوسة، الدرجة التى تجعلنى أمسك بالمفتاح فى يدى وأقبض عليه بقوة من أول الشارع المؤدى للبيت.
متى بدأ هذا الهاجس، لا أدرى، لكنه لا يفارقنى إلا فى الأوقات القليلة التى أضطر فيها إلى السفر للخارج بسبب العمل، والمبيت فى فندق.
أحب الفنادق، ليس فقط لأنها مرتبطة بالسفر مع كل ما يعنيه من احتمالات جديدة، لكن لأنها تمنحنى الخصوصية بغير إحساس الوحشة أو العزلة.
الفندق مكان خاص وعابر، وميزته أنك لن تضطر إلى حمل مفتاح، مع ثقتك بأنك ستجد الغرفة مرتبة والطعام ساخنًا.. ثم لا أحد هناك.
الليلة الأخيرة فى الفندق سبقها نهار مشحون بالعمل والاجتماعات، نظرت للساعة فوجدت أمامى أقل من خمس ساعات على موعد الطائرة.
لا أريد أن أنام لسببين، أخاف ألا أستيقظ فى الموعد، والسبب الأهم أن هذه الرحلة مرت سريعًا بلا دقيقة راحة أو نزهة واحدة، فكرت فى الخروج لكن بدا هذا خيارًا مرهقًا، كان الحل الوسط هو النزول لبهو الفندق وتناول مشروب خفيف.. بعد استبعاد صالة الديسكو، وقاعة عرض مباريات الكروكيت، بقى أمامى المطعم اللبنانى والمطعم الهندى.. الموسيقا المناسبة من داخل المطعم الهندى حسمت الاختيار بسهولة.. كانت الفرقة الموسيقية مكونة من فتاة سمراء ترتدى ساريًا هنديًّا تقليديًّا أخضر اللون، وعازفين شابين يقفان خلفها...ابتسمت لى فابتسمت لها، اخترت مكانًا قريبًا من المسرح وجلست.. كان المطعم خاليًا إلا منى ومن أسرة هندية كبيرة العدد جلست فى أحد الأركان مستغرقة فى الأكل والكلام.
طلبت فنجانًا من الشاى الأخضر بالنعناع، وأرهفت السمع محاولة ارتشاف الموسيقى وفك طلاسم اللغة.
بدا على الفرقة الموسيقية السعادة بجمهورها الوحيد الذى هو أنا.. تجلّت المغنية وتمايلت باندماج وهى تشدو بأغنية بعد أخرى، وبدأ العازفان يرقصان ويشيران لى فأرفع يدى بتحية استحسان.
لم نلتفت لرحيل الأسرة الوحيدة التى كانت تشاركنا السهرة.
مستغرقون تمامًا، هم فى العزف والغناء وأنا فى التشجيع، حتى توقف العزف فجأة، واقتربت منى المغنية السمراء محيية، قالت بالإنجليزية: سيدتى، أهدى لك هذه الأغنية..
انسابت الموسيقى الهادئة، وبدأت تغنى وهى تنظر لى.. حاولت أن أفهم شيئًا بلا جدوى، لكنها كانت تغنى من أعماق قلبها.. ونجحت فى نقل إحساسها إلى.. صفقت لها طويلًا حين انتهت، ثم سألتها: عم تحكى؟
قالت بهمس: فتاة تناجى حبيبها.. البعيد.
قلت: انفصلا؟ أومأت برأسها إيجابًا، لكن العازف الأكبر سنًّا والواقف على يمينها أسرع قائلًا: سافر.. فقط سافر.
وبصوت مرح أضاف: وهذه أغنية عربية من أجلك.
وعلت الموسيقى من جديد «حبيبى يا نور العين»
صفقت محاولة إكمال طقس المرح، رغم الدموع التى بدأت تلمع فى عينى.
كان موعد الإغلاق قد حان، وكان الوقت الباقى بالكاد يكفى تجهيز الحقيبة، أشرت للفرقة بابتسامة قبل أن أصعد لغرفتى..
تناولت المحفظة الجلدية الصغيرة، أخرجت صورتنا، وجلست على طرف الفراش أتأملها..
كنا مبتسمين.. كنا أصغر سنًّا.. كانت العيون تبرق بفرح وثقة، وكنت تحيط خصرى بكلتا يديك، وأنا أميل برأسى قليلًا نحوك، وأنظر إلى بعيد.
كانت قبضتى مضمومة بشدة ولم أرخها على كتفك.. احتفظت بها مضمومة كأنها فى حالة تأهب للدفاع أو الهجوم.. أو ربما كأنها تود أن تحتفظ فى داخلها بشىء لا تفلته ولا يراه أحد..
ربما كان جديرًا بك أن تحيط خصرى بذراع واحدة، وتترك الأخرى طليقًة.. وربما لو كنت فردت كفى وأسندتها على كتفك لكنا نجحنا فى الاستمرار لوقت أطول.