رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الأشياء المشتركة بين ممارسة «الكتابة» وممارسة «الحب»


قالت لى إحدى صديقاتى، التى تعانى من الوزن الزائد: «بالتأكيد ستكتبين مقالك المقبل عن الهجوم الإعلامى ضد النساء البدينات»، قلت: «بالتأكيد لن أكتب عن هذا الموضوع رغم أهميته»، اندهشت قائلة: «تعترفين بأنه موضوع مهم، لماذا إذن لا تكتبين عنه؟!»، قلت: «لم يدخل بعد فى دمى»، وانصرفت غاضبة.
رغم أنها صديقتى منذ زمن طويل، لكنها لم تستطع أن تفهم علاقتى بالكتابة، تحب كتاباتى، تحرص على قراءتها أول شىء فى الصباح، فى النسخة الورقية، وهى ترتشف فنجان الشاى بالنعناع.. صديقتى تناقشنى فيما أكتب وتقول لى رأيها، لكنها لم تستوعب نوع الرابطة العضوية الحميمة بينى وبين الكتابة.
أنا لا أجرؤ على لمس القلم أو الاقتراب من جسد الصفحة البيضاء إلا إذا أحسست بأن كل كلمة هى امتداد طبيعى لمزاجى، وحالتى النفسية، والعاطفية، والجسمية.. لا أؤمن بكلمة ليست تنتمى إلى أوجاع وأحزان وأفراح وآلام وأحلام «ذاتى»، لا أكتب حرفًا لا يحمل فصيلة دمى ولا يشكل لونًا أو خطًا أو ظلًا فى لوحة وجهى.
لا أكتب لأثبت التزامى نحو «القضايا الجماهيرية»، لا أكتب «علشان» الفلوس أو الشهرة أو تلقى المديح، لا أكتب لكى تأتينى الدعوات لقراءة قصائدى أو التحدث فى الندوات والمهرجانات أو لترشيح نفسى فى اتحاد الكتّاب، أو لأكون فى جمعية تلصق اسمى فى قائمة الكاتبات والشاعرات، لا أكتب لأحصل على جوائز أو تكريم أو اعتراف.
لا أكتب لأدخل التاريخ، فأنا لا يهمنى التاريخ ولا الجغرافيا ولا الأحياء ولا الأموات، ولا أكتب لإصلاح الكون وحال الدنيا المايل، أو لأحرر النساء والرجال، لا أكتب لكشف الفساد أو فضح الاستثمار فى الأديان وأجساد البشر، لا أكتب لتعرية إرهاب الدولة الدينية وإرهاب الفن المتدنى وإرهاب الأخلاق غير الحميدة.
ولا أكتب لأُوصف بالجرأة وإضاءة دروب الوعى ونقل المجتمع إلى التنوير والتحريض على اشتهاء الحرية والعدل، ولا أكتب لأصبح ضيفة مستهلكة فى تليفزيونات الأرض أو فضائيات السماء.. أكتب «علشان» أنبسط وأستلذ وأستمتع و«أتمزج» على الآخر، و«أنتشى حتى الثمالة» من مداعبات اللغة ورحيق الكلمات وعناق الأفكار.
إننى عاجزة حتى الشلل عن افتعال لذة الكتابة واستحضار نشوة هذا العناق وتمثيل دور المستمتعة المتمزجة بفعل الكتابة.. مثلما هناك زوجات يفتعلن الشعور باللذة الجنسية مع أزواجهن وتمثيل دور المرأة الملتزمة بالأنوثة الموروثة والوفاء الشرعى، توجد أيضًا النساء الكاتبات، اللائى يفتعلن لذة الكتابة ويمثلن دور الكاتبة الملتزمة بالمواعظ الذكورية للنقاد وبإرضاء المهيمنين على «تلميع»، أو «إطفاء» منْ تمسك بالقلم.
ممارسة الكتابة مثل ممارسة الحب تفترض مسبقًا العاطفة الجياشة والحرية والدهشة والحنين والغموض والتركيز والهدوء والخيال والانفتاح على طاقات وأسرار، والوصول عبر الجمال إلى محطة جديدة ساحرة من اكتشافنا ذواتنا والآخر والكون.
لكن حديث الذات فى مجتمعاتنا حديث منبوذ مكروه، يوصف بالسطحية والمحدودية وخيانة الأمانة والتربع فى برج عاجى منعزل عن «هموم الأغلبية الساحقة».. إن الذات «تاريخ» و«حضارة»، و«مخزون» ثقافى متراكم، و«توليفة» أفكار، و«كوكتيل» من الواقع والحلم وجميع تنويعات المشاعر والعواطف، وخلطة من الأمزجة.. من هنا تصبح «الذاتية» جسرًا للعبور إلى الآخرين؛ لأنها بالتحديد لم «تنكر» نفسها ولم تقلد أحدًا.
يقول كتاب «الأوبانيشاد» الهندى، أقدم كتب الحكمة: «لا تنكر ذاتك، فهى الأجنحة التى بها تطير»، ويقول أيضًا: «ابحث فى الداخل.. فالكون كله موجود فى قلبك»، هذا هو بيت الداء، الناس ينظرون إلى الخارج، لا أحد «يحدق» فى الداخل وينصت إليه ويسترشد بحكمته، ولذلك تكرر البشرية حماقاتها ويعيد البشر خطاياهم، «لا تنكر ذاتك فهى الأجنحة التى بها تطير».
أعتقد أن هذا هو التفسير، لماذا على الأخص فى مجتمعاتنا فقدنا القدرة أو الرغبة فى الطيران والتحليق، واستسلمنا لإدمان الخطوات الكسيحة والمشى الخامل والوقوف اليائس.. «لا تنكر ذاتك، فهى الأجنحة التى بها تطير»، هذه الحكمة الهندية المنسية تذكرنى كيف يغسل الناس كل يوم وجوههم ولا يغسلون «مرة واحدة» قلوبهم.
إنه وليس غيره، «التشبث بذاتى»، ما يجعلنى قادرة على غسل قلبى كل يوم بماء متجدد وعطر، أنا وحدى أملك أسراره.
من بستان قصائدى
فى زمن الطفولة.. أسبح
فى حمّام السباحة.. النظيف المعقم النقى فى أرقى الأندية
وأنت تسبح فى ترعة القرية.. المتسخة الملوثة
التى أمرضت كبدك بالوباء.. كلما تذكرت هذا المشهد
يجتاحنى بكاء متشنج.. وأصرخ من شدة الألم
أكره أكثر هذا العالم.. وأكره السباحة
وأكره النادى.. وأكره نفسى
التى عجزت عن منحك الشِفاء.. وأكره الأغنياء
الذين يستمتعون.. على جثث الفقراء