رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

طه حسين وهيكل ومعركة التراث


هناك أسئلة مُعلقة فى التاريخ المصرى تبحث عن إجابات، وحاول البعض تقديم إجاباتٍ لها، ولكن بعض هذه الإجابات حدية؛ بمعنى أنها قاسية وتأخذ طريق المطلق، والغريب أننا نتقبل سريعًا الإجابات الحدية، أكثر من الإجابات المنطقية أو الواقعية.
من أهم هذه الأسئلة تفسير تحول الكثير من المفكرين الليبراليين إلى الكتابة فى الإسلاميات والتراث فى فترة الثلاثينيات والأربعينيات من القرن العشرين، ومن أهم رموز هؤلاء الكتّاب وأشهرهم طه حسين ومحمد حسين هيكل وعباس العقاد، ولعل أهم كتاباتهم «على هامش السيرة» و«حياة محمد» و«العبقريات».
ولقد ذهب البعض فى تفسير ذلك الأمر منحى حديًا؛ إذ صوره البعض على أنه «رِدة» وتراجع عن الخط الليبرالى والفكر الحر بعد المعارك الفكرية الشهيرة فى العشرينيات، مثل معركة كتاب الإسلام وأصول الحكم للشيخ على عبدالرازق فى عام ١٩٢٥، ومعركة كتاب الشعر الجاهلى لطه حسين فى عام ١٩٢٦، وشاع بشدة هذا التفسير وتقبل معظم الباحثين فكرة «الرِدة» و«التراجع» تحت ضغط الرأى العام.
وحاول الباحث إبراهيم فوزى فى رسالته للماجستير عن تحولات الفكر فى مصر فى الثلاثينيات والأربعينيات، تحت إشراف دكتور على الدين هلال بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية، إجراء مراجعة فكرية لهذا الرأى الشائع عن السر وراء تحول هؤلاء المفكرين الليبراليين إلى الكتابة فى الإسلاميات.
وبدايةً نجح الباحث فى مدخله لإجراء المراجعة، إذ إنه لم يفسر الظاهرة من خلال سبب وحيد أو عامل حاكم، فالظواهر التاريخية يحيط بها العديد من العوامل والأسباب، وبالتالى خرج الباحث من سحر الأحادية، الذى يرتاح له أحيانًا كثيرة العقل فى محاولة التفسير.
أشار الباحث إلى ضرورة تقصى المتغيرات المحلية الواقعة فى مصر آنذاك، وظاهرة الانقلابات الدستورية على دستور ٢٣، والصراع السياسى الحزبى، وعودة المفكرين إلى ضرورة الإصلاح التربوى والفكرى قبل الإصلاح السياسى، كما أشار الباحث إلى التحولات العنيفة، التى كانت تعصف بأوروبا آنذاك وتزلزل التجربة الليبرالية مع صعود الفاشية فى إيطاليا والنازية فى ألمانيا، وانعكاسات ذلك على الأوضاع السياسية والفكرية فى مصر.
وقام الباحث بإجراء دراسة تحليلية لمعظم الكتابات فى الإسلاميات لطه حسين وهيكل، وخرج الباحث بنتائج هامة، لعل فى مقدمتها أن ولوج طه حسين وهيكل إلى الإسلاميات لم يكن رِدة ولا تراجعًا، ولا خوفًا من الرأى العام، ولكن على العكس من ذلك كان محاولة لجذب أكبر قطاع من الرأى العام إلى صفهما، وتعويد الجمهور على استقبال الإسلاميات من المفكرين الليبراليين وليس علماء الدين من الأزهر، كما كان الحال من قبل.
يُضاف إلى ذلك التأثر الشديد بحركة النقد، لا سيما حركة نقد الكتاب المقدس فى أوروبا، وبالتالى كانت الكتابة فى الإسلاميات هى تحول تكتيكى فى إطار مشروعهم الليبرالى.
وربما نُضيف إلى ما انتهى إليه الباحث تأسيس الجامعة المصرية الحكومية عام ١٩٢٥ بعد تأسيس الجامعة الأهلية عام ١٩٠٨، وإنشاء أقسام التاريخ والفلسفة والأدب العربى، وبالتالى أصبحت الجامعة هى المسئولة عن التراث الإسلامى وليست فقط المؤسسات الدينية التقليدية، وربما سيتضح هذا الأمر جليًا بعد ذلك فى أعمال أحمد أمين «فجر الإسلام» و«ضحى الإسلام».
وهكذا يتبين أن تحول المفكرين الليبراليين إلى الكتابة فى الإسلاميات لم يكن رِدة أو تراجعًا فى مشروعهم الفكرى، إنما محاولة لكسر احتكار التراث، وجذب قطاعات واسعة من الرأى العام إلى مشروعهم.