رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الروح وشقوق الجدران فى "يوم الثبات الانفعالى" لسهير المصادفة

جريدة الدستور

دقيقة ونصف تمت فيها المهمة على أكل وجه، تسعون ثانية انقطع فيها التيار الكهربى عن مطعم لازانيا الملاصق لفندق رمسيس، فتم جز رأس صوفيا ووضعه على المنضدة التى كانت تجلس عليها. كأنه قطعة لحم نيئة قدمت على طبق كبير لوحش جائع.

تكورت راوية تحت المسرح الزجاجى الذى تشدو عليه بالأغنيات مساء كل ليلة، تملكتها الرعشة وهى تنظر لأعضاء جماعة الثبات الانفعالى، ما الذى جاء بهم إلى هنا ولماذا قتلوا صافى ما الفائدة من قتل راقصة؟! وما الذى جاء بماسبيرو إلى هنا؟ هل مازال ماسبيرو على علاقة بجماعة الثبات الانفعالى؟ تموج الأسئلة برأس راوية فتحدث ضجيجا لا تحتمله.

دخل رجال الشرطة والنيابة إلى موقع الحادث، وبدأوا يتفحصون المكان الخالى إلا من جسد صافى ورأسها وراوية التى لا يراها أحد.

استطاعت أن تخرج من الباب الخلفى بأنفاس مختنقة إلى كورنيش النيل.. لتعود عشر سنوات إلى الخلف إلى يوم عملية الثبات الانفعالى، حين صعدت إلى المركب هى وحبيبها ماسبيرو الذى سماه والده باسم الحى الذى يسكنه، وسوسن فرج الألفى، مدرس اللغة العربية وأبيها، ورفعت جلال وفتحى الموان وعبدالله الشوكى وفاطمة السباعى، وكلهم من مثلث ماسبيرو.

كانت تحضن ذراع ماسبيرو الذى تسكن معه فى نفس البيت القديم، المكون من طابقين فى الطابق الأرضى، مسكن ودكان سمير ترزى النساء، والد ماسبيرو الذى جار عليه الزمن بعد أن ارتدت البنات والسيدات البناطيل الجينز والعباءات السوداء، فأضحى سمير بلا عمل فطردته زوجته أحلام، لا تدري لعله الفقر أم لاعتقادها أنه زير النساء فأضحى ماسبيرو بلا أب.. كما أنه بلا أشقاء أنجبت أمه عشرة أبناء ماتوا جميعًا بعد ولادتهم بأيام قليلة، ولكن ماسبيرو تعلق بالحياة فعاش.. تذكرت راوية وهى تحتضن ذراع حبيبها لياليها معه حين يدخل كاللص من باب المطبخ، خشية أن تضبطه والدته متلبسًا فى حضنها..

كانت أحلام تكره راوية بقدر حبها للفرجة على الأفلام. لا يمر يوم فى حياة أحلام دون مشاهدة فيلم عربى أو أجنبى، ودون سب راوية أثناء صعودها السلم أو النزول عليه.. لكن كل ذلك لا يهم المهم أن ماسبيرو يحبها.

حدقت راوية فى وجه الأستاذ فرج مدرس اللغة العربية كيف وافق أن تأتى ابنته سوسن التى لم تكمل الثامنة عشر معه إلى المجهول.. كما اندهشت من وجود فاطمة السباعى الطالبة فى كلية الطب، والتى أكلت المذاكرة عينيها فغطتهما بنظارة سميكة حتى تتبين ملامح الأشياء.

لكن راوية لم تندهش لوجود رفعت جلال والموان والشوكى، فكلهم يبيعون أمهاتهم من أجل المصلحة..
تحرك المركب إلى جزيرة بعيدة فى نهر النيل ظنوا أنها خلقت للتو لم يرها أحد.. وجدوا كراس بها بعض التطمينات بأن اهدأوا أنتم قادة العالم الجديد.. مع بعض التوصيات بألا تتركوا ملامح وجوهكم تكشف سرائركم، تحدثوا دون إيماءات لا تتركوا مجالا للغة الجسد. وبعد برهة وجدوا كراس بها طلب النزول إلى النيل لاصطياد السمك، ثم شويه فى توقيت محدد بناء على ساعات رقمية كانت مخبأة تحت شجر الجميز.

اصطاد ماسبيرو العديد من الأسماك ثم اختفى فجأة، فظن الجميع أن النيل قد ابتلعه.. نزلت راوية إلى الماء تبحث عنه بصحبة معلمها الأستاذ فرج، غير أن الرجل أغراه جسدها الذى أوضح الماء قسماته، فالتصق بها فلطمته على وجهه وخرجت لتجد ابنته تحت الرجال..

وبعد قليل تحركت المجموعة وسط الأشجار فوجدوا ورقة مكتوب بها أن يستريحوا لبعض الوقت ولا تفعلوا شيئا، اختبأت راوية فى التراب حتى لا تصبح فريسة مثل سوسن.

حاول فرج قتل تلامذته انتقامًا لشرفه ففروا منه وبعد ساعة عادوا إليه فوجدوه قتيلًا.. انتهت المهمة وخرج أعضاء الخلية على وعد بلقاء بعد عشر سنوات.

ولما عادت راوية إلى بيتها بقلب مرتجف وعيون دامعة على فقدها لحبيبها وجدته ينتظرها فى سرير نومها..

مازالت راوية شاردة وهى تجوب الشوارع، وتنظر إلى السنوات العشر الماضية بالنسبة لخلية الثبات الانفعالى، بدأت بنفسها بعد تخرجها فى كلية الآداب ثم التحاقها بالتليفزيون كمعدة، فلم تجد به ما يحقق ذاتها فاستقالت، وعملت بمطعم لازانيا مغنية لدى مدام فيرونا الايطالية التى احتوتها.

كانت راوية تخرج من المطعم وتستقل تاكسى إلى جاردن سيتى ثم تعود مشيًا على قدميها إلى مثلث ماسبيرو، كنوع من التمويه، حتى لا يكشف أهل الحى أمرها وخاصة حبيبها.. فجمعت المال واشترت شقة فى الزمالك، فكرت فى الاستقرار بها إلا أن عقلها وقلبها تعلقا بماسبيرو، لكن ماسبيرو تشبث بالبيت كما تتشبث النطفة المخلقة بالرحم، ورفض أن بيبع بيته بحجة أن روحه تعلقت بشقوق الجدران، وعويل النساء، وبكاء الرضع، ومواء القطط الجائعة، وعواء الكلاب الضالة، وهديل الحمام فوق الأسطح، وصرير الأبواب المنهكة، وضحكات الفقر الساخر من الأغنياء القابعين على الشط الآخر.. شدت راوية نفسًا عميقًا وقالت: ماسبيرو هو الوحيد الذى لم يحصل على شئىء، غير نشاط دكانه مرّات ومرّات من البقالة الى أشرطة الفيديو، إلى البلاى ستيشن، ثم أغلق الدكان وأصبح بائعًا للنكت، ثم سائقا لتوك توك.. ثم مربيًا للحمام.

بينما أضحى رفعت جلال معارضًا شهيرا، وتزوج من فاطمة التى أصبحت طبيبة شهيرة، تملك مستشفى خاصًا، تنتقل بين المحطات الفضائية للحديث عن التنمية البشرية، أما سوسن فرج التى باعت والدها وتركته فى الجزيرة ميتًا دون أن يرف لها رمش، أو تطالب بدفنه، أضحت إعلامية كبيرة يشار إليها بالبنان، تملك قصرا مشيدا وأرصدة ضخمة بالبنوك.

أما عبدالله الشوكى فأصبح نائبًا برلمانيًا وفتحى الموان محاميًا شهيرًا. تهز راوية رأسها ساخرة وتقول من الذين فعلوا كل هذا وجعلوا من هذه الدمى مشاهير يود الناس لقاءهم لالتقاظ الصور معهم؟ رغم أنهم لا يساوون شيئا على الإطلاق، تمر راوية على بائع الصحف فتجد المانشيتات تشير إلى أن ماسبيرو هو قاتل صافى فينفطر قلبها.

تنظر إلى الساعة الرقمية التى لا تفارقها حقيبتها دون علة واضحة منذ يوم الثبات الانفعالى فتجد أرقامها تتحرك.

تتوجه إلى حى ماسبيرو ثم تقذف بأغراضها فى الشارع ثم تركض إلى الكورنيش، فتجد رفعت جلال ينتظرها فى سيارته فتسأله بحدة: لماذا قتلتهم صافى ولماذا تريدون الزج بماسبيرو فى السجن؟ فقال بهدوء وهو يشعل سيجارة الكوبى الفاخر: لم نقتل صافى فهى مجرد راقصة بل قتلها أحد أقاربها وماسبيرو لن يسجن. فسألته لماذا جعلتموه موضع اتهام.. فقال ببرود ليختفى يومين ثم يعود.. نظرت راوية إلى بيت ماسبيرو وهزت رأسها وضحكت.

قصة عن رواية يوم الثبات الإنفعالي للكاتبة سهير المصادفة، الصادرة عن دار إبييدي للنشر.