حوداث إطلاق النار الجماعي بأمريكا بين الحرية الشخصية ومصالح "لوبي البنادق"
بعد نحو شهر فقط من حادث إطلاق النار الدامي، الذي وقع بولاية تكساس وأودى بحياة 22 قتيلا وقرابة 24 مصابا، أفاق سكان الولاية على حادث إطلاق نار عشوائي آخر قُتل خلاله هذه المرة 5 أشخاص على الأقل وأصيب أكثر من 20 آخرين.
وبحسب الشرطة الأمريكية، فإن الحادث وقع في مدينة "أوديسا "غربي تكساس، عندما أطلق مسلح النار على رجل شرطة حاول إيقافه على أحد الطرق السريعة، قبل أن يسرق سيارة خدمات بريدية ويفتح النار على المارة بشكل عشوائي بينما يقود السيارة المسروقة، قبل أن يقتل في تبادل لإطلاق النار مع رجال الشرطة خارج إحدى دور السينما في المدينة.
وقال الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، في تغريدة له على موقع التواصل الاجتماعي (تويتر) - "إنه يتابع مع الشرطة تطورات الحادث"، أوعلن نائبه مايك بنس أن إدارة ترامب عازمة على العمل مع قادة الحزبين الجمهوري والديمقراطي في الكونجرس؛ لاتخاذ خطوات جادة لمواجهة هذه الآفة والفظائع الجماعية في البلاد.
وفي حين لم تعرف بعد دوافع هذا الحادث، فإنه جاء ليسلط الضوء مجددا على ظاهرة حوادث إطلاق النار العشوائي في الولايات المتحدة التي تفاقمت في السنوات الأخيرة، وأصبحت خطرا مخيفا يحصد حياة مئات الأمريكيين سنويا، كما أن تكرار هذه الحوادث بهذا الشكل الدامي والمخيف وما يصاحبها من موجات غضب شعبي يفتح باب النقاش والجدل في الأوساط السياسية والإعلامية الأمريكية حول الموقف من قوانين ترخيص وحمل السلاح في الولايات المتحدة، وما إذا كانت هذه الحوادث تشكل دافعا قويا لوضع قيود على حيازة السلاح في البلاد، على غرار ما فعلت دول أخرى في أوروبا واجهت نفس الخطر مثل بريطانيا أو نيوزيلندا.
وترسم الاحصاءات والأرقام المسجلة لتلك الحوادث صورة مخيفة للوضع في الولايات المتحدة؛ حيث بلغ عدد هذه الحوادث خلال العام الحالي فقط حوالي 251 حادثا حتى الآن، فيما تسجل الولايات المتحدة مقتل نحو 3400 فرد في كل عام جراء إصابات مرتبطة باستخدام أسلحة نارية (ما يعادل 9 حالات يوميا).
ومن بين الاقتصادات المتقدمة في العالم، تعاني الولايات المتحدة من ارتفاع أعداد حالات الوفيات الناجمة عن حوادث إطلاق النار إلى درجة مروعة بما يعادل 10 حالات لكل 100 ألف فرد، بينما يتدنى هذا المعدل في النمسا التي تحتل المرتبة الثانية بعد الولايات المتحدة مباشرة في قائمة الدول الأكثر تضررا من جرائم إطلاق النار إلى 3 حالات فقط لكل 100 ألف، وتأتي اليابان وكوريا الجنوبية في ذيل القائمة بمعدل "صفر" حالات.
وقد كان أكثر حوادث إطلاق النار دموية في تاريخ الولايات المتحدة، الذي وقع في مدينة لاس فيجاس عام 2017 وأودى بحياة 58 شخصا وأكثر من 527 مصابا، عندما قام مسلح يبلغ من العمر 64 عاما بإطلاق النار على رواد حفل لموسيقى الريف كان يقام بأحد فنادق المدينة قبل أن ينتحر.
وفي يونيو 2016، شهدت الولايات المتحدة حادثا دمويا مماثلا عندما قتل 49 شخصا داخل ناد ليلي للمثليين بعدما فتح مسلح النار عليهم، وهو الحادث الذي تبناه تنظيم (داعش) الإرهابي.. وبصورة إجمالية، بلغ عدد ضحايا هذا النوع من حوادث العنف المفرط في الولايات المتحدة حتى الآن 2477 قتيلا و9168 جريحا.
وتعود حوادث إطلاق النار الجماعية الأخيرة في الولايات المتحدة إلى أسباب عديدة: مرض نفسي وشجار في مكان العمل أو مشاكل وأزمات عائلية، لكن الجديد في الحوادث الأخيرة هو ظهور سبب لم يكن موجودا؛ وهو سبب سياسي يرتبط بالخطاب العنصري المتطرف المنحاز للقومية البيضاء والذي تعتمده الإدارة الأمريكية الحالية وبعض كبار المسؤولين فيها، وهو ما ظهر في حادث إطلاق النار الذي شهدته مدينة "إل باسو" في ولاية تكساس؛ حيث قاد المجرم سيارته لمدة 8 ساعات من شمال الولاية إلى قرب الحدود المكسيكية، حيث فتح النار في منطقة تسوق يزورها الناطقون بالإسبانية.
غير أن الحادث الأكثر بشاعة والذي مثل نقطة فارقة في تاريخ حوادث إطلاق النار العشوائي في الولايات المتحدة كان في عام 2012 في مدينة نيوتاون، حين قتل 26 شخصا بينهم 20 طفلا، حيث سعى الكونجرس بقوة عقب هذا الحادث الدموي، لفرض رقابة على شراء السلاح، وبالرغم من الدعم الذي حظيت به الخطوة من ممثلي الحزبين في مجلس الشيوخ فإن أقلية تمكنت من تعطيل الاقتراح من خلال إجراء برلماني، ولم يحظ الاقتراح بالنقاش في مجلس النواب ذي الأغلبية الجمهورية.
وقد تجدد الضغط على الكونجرس لاتخاذ خطوات ملموسة فيما يتعلق بقوانين حيازة السلاح في الولايات المتحدة، عقب إطلاق النار في إل باسو ودايتون، لكن لم يحدث أي تقدم في هذا الصدد.
وكثيرا ما تحطمت محاولات فرض قيود على اقتناء السلاح الشخصي في الولايات المتحدة على صخرة النفوذ الكبير الذي تحظى به رابطة السلاح الوطنية الأمريكية لدى دوائر صناعة القرار في الولايات المتحدة؛ حيث تحظى هذه الرابطة بقوة سياسية كبرى ويهمين ما يطلق عليه "لوبي البنادق" على أكثر من نصف أعضاء الكونجرس، الذي يواصل دعم الحرية المطلقة في شراء الأسلحة النارية التي يحقق من ورائها أرباحا طائلة.
ومن خلال هذا النفوذ، تمكنت هذه الرابطة التي تمثل الملايين من مستخدمي السلاح ومصنعيه من خلال عقود من الحملات أن تجعل حق حيازة السلاح مقدسا.
وينص التعديل الثاني للدستور الأمريكي في عام 1791 على أنه "لا يجوز المساس أو الحد من حق المواطن الأمريكي في حمل السلاح".. وبالرغم من أن هذا التعديل قد مر عليه 228 عاما شهدت تغيرات جذرية على كافة المستويات، إلا أنه لا يزال يمثل قاعدة قانونية يستند إليها المستفيدون من ترك باب شراء واستخدام الأسلحة النارية في جميع أنحاء البلاد مفتوحا على مصراعيه.
لكن نفوذ الرابطة تراجع مؤخرا، وتراجعت إيراداتها بقيمة 56 مليون دولار عام 2017، بسبب تراجع الدخل من اشتراكات الأعضاء.. وفي انتخابات الكونجرس النصفية عام 2018 نجح العديد من معارضي السلاح في العديد من المناطق، ولم تعد الرابطة بتلك القوة التي مكنتها من مقاومة محاولات تعديل القوانين الخاصة بحيازة السلاح، وهو ما قد يساعد في وضع قيود وضوابط على حيازة السلاح في مواجهة جرائم القتل الجماعي تشهدها الولايات المتحدة حاليا.