رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

بالألوان الطبيعية.. تاريخ مصر محفور على «البالوعات» (صور)

جريدة الدستور

الصورة واحدة، ولكن النظرة لها مختلفة، فهناك من يراها لوحة فنية، رَسمت ملامح التاريخ، وتستوجب الاهتمام بها، وهناك من يراها قطعة معدنية ثمينة، لابد من بيعها لأول تاجر خردة يدفع الثمن الأكبر.

ذلك هو حال أغطية البالوعات في مصر، والتي رأتها "سلمى نصار"، مدرس مساعد بالجامعة الأمريكية بالقاهرة، عملًا فنيًا شكلت منه أول معرض فني، لأغطية بالوعات الصرف الصحي؛ ليتعرف المصريون من خلالها على تاريخ بلدهم، وفي ذات الوقت تُسرق لبيعها في الخردة، وتترك البالوعات بدون غطاء تحصد في أرواح المواطنين.

"الدستور" في التقرير التالي، رصدت تاريخ أغطية البالوعات، وكيف رسمت على سطحها تاريخ الأمم والحضارات في مصر وغيرها، من الدول الكبرى، والذين استغلوها لعرض تراثهم من خلالها، إلى جانب المبادرة التي ظهرت مؤخرًا بتزيينها.

سلمي نصار، صاحبة أول معرض فني لتاريخ البالوعات، قالت مصر صاحبة تاريخ طويل يحكيه المناطق العمرانية التي صُممت خلال القرنين الماضيين، ومازالت واقفة لتحكي عن التاريخ العمراني لهذا الزمن، موضحة أن أغطية بالوعات الصرف الصحي كانت جزء من التاريخ العمراني لمصر، والتي لم يلتفت لها أحد ووجدتها زاوية جديدة لسرد سيرة مصر العمرانية والحضارية.

ويرجع مشروع شبكة الصرف الصحي المصرية، إلى شبكة مجاري المياه التي أنشأها مستثمرون أوروبيون بإشراف مُباشر من الخديوي إسماعيل في ستينات القرن التاسع عشر، ولكن في عام 1914 تم إنشاء شبكة الصرف الصحي الحديثة، كنواة لمشروع مُتكامل بدأ في القاهرة عام 1915، مع أوّل شبكة صرف صحّي في مصر أنشأها مهندس إنجليزي يُدعى "تشارلز جيمس كاركيت".

وتابعت نصار، فكرة دراسة بالوعات مصر، وتسليط الضوء عليها بدأت عام 2016، لتشمل أحجام الأغطية وأشكالها والأهم هو ما حفر عليها، بعد أن شاهدت صورة لإحدى بالوعات هليوبولس بمنطقة مصر الجديدة، حُفر عليها بخط جمالي كلمة هليوبولس، لتعكس تاريخ مصر في هذه المنطقة في القرن العشرين، ومدى اهتمامهم بتفاصيل التخطيط العمراني، والذي وصل لأغطية البالوعات.

واستطردت تلك الصورة جعلتني أفكر في البحث عن التاريخ المعماري لمصر، من أغطية البالوعات وتوقعت أن أجد مشاركة لعدد كبير من الفنانين في تنفيذها، وبالفعل خلال 3 سنوات تم تصوير وتوثيق بين 200 و300 بالوعة في القاهرة، وفي مارس تم تنفيذ المعرض الذي تضمن نحو 36 صورة من البالوعات من مناطق متنوعة، منها مصر الجديدة والمعادي والمهندسين والزمالك ووسط القاهرة.

وجاء تفكير الإنجليز في إنشاء بالوعات الصرف الصحي في مصر، إلى فترة انتشار الأوبئة وخاصة مرض الكوليرا، والذي لم يكن يهدد فقط حياة المصريين، ولكن الإنجليز أيضًا الذين يعيشون في مصر وتجاوز عددهم نصف سكان مصر في الفترة من عام 1909 حتى 1915.

وعكست بالوعات مصر في هذه الفترة التصنيف الاجتماعي والمكاني للمصريين، فاعتمد "كاركيت" في رسوماته التخطيطية لشبكة المجاري الأولى في مصر، على دراسة الحالة الاجتماعية لسكان مناطق القاهرة ليستطيع تحديد التصميم الأفضل لشبكة الصرف فيها بتحديد حجم وسعة كل محطة لكل منطقة، إذ اعتبر أنّ المناطق الأكثر ثراءً بالضرورة أكثر استهلاكًا للمياه، والعكس صحيح.

وكانت أغطية البالوعات في هذه الفترة من ضمن الأغطية التي وجدتها سلمي نصار خلال بحثها مع فريقها، وأوضحت أنها لم تجد خلال بحثها أي أغطية بلاعات قبل هذه الفترة.

مصر لم تكن الدولة الوحيدة التي رسمت تاريخها وحضارتها على أغطية البالوعات، ففي اليابان تختلف أغطية فتحات الصرف الصحي من منطقة الى أخرى، وأصبحت تشكل مصدر جذب سياحي، ويتنافس المدن اليابانية لتنفيذ أفضل الأعمال الفنية عليها.

وأصبحت كل بالوعة تعبر عن ثقافة أو تاريخ المنطقة التي وضعت فيها، فوجود جسر خليج "يوكوهاما" على غطاء البلاعة يعبر عن مدينة "يوكوهاما"، وقلعة "أوساكا" للتعبير عن مدينة "أوساكا،" والشخصية الكرتونية للناتّو (فول الصويا المخمر) الذي تشتهر بإنتاجه مدينة ميتو وغيرها من المعالم والمدن.

وفي إنجلترا كان غطاء البالوعات رمز للحضارة البريطانية التي استمرت لسنوات طويلة، فنُقشت على غطاء البالوعات في الشوارع الرئيسية، صورًا لفترات زمنية وصلت إلى القرن الماضي، كما روج بعض مستخدمي السوشيال ميديا صورًا لغطاء بالوعة في محطة "توتنهام" القديمة يحمل تاريخًا لعام 1968 كتب عليه مستورد من العراق، ليعيد لذاكرة العراقيين الحضارة التى امتلكها شعوبهم على مدار سنوات طويلة.