رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

إحنا اللى ضربنا القطر


لسنوات طويلة ظللنا نتندر بمثل شعبى يعبر عن كرم إخوتنا «الشراقوة»، أى أبناء محافظة الشرقية، بأنهم «الناس اللى عزموا القطر»، وكانت وراء هذا المثل قصة طريفة رويت بأكثر من طريقة، منها أن قطار السكك الحديدية كان سيمر لأول مرة من إحدى قرى الشرقية، وكان ذلك خلال شهر رمضان، وتصادف أن توقف القطار وقت أذان المغرب، فأقسم عمدة القرية على أن يطعم ركاب القطار ويكسب ثواب إفطارهم، وتنافس أهل القرية كلهم فى ذلك.
لكن يبدو أن أحوالنا تغيرت أو انقلبت رأسًا على عقب، فلم يعد أبناء القرى يتنافسون على «عزومة» ركاب القطارات التى تمرّ ببلداتهم، بل أصبحوا يتنافسون فى إلقاء الحجارة عليها، وتكسير نوافذها وإصابة ركابها دون أى سبب أو ذنب، ودون أن يجدوا من يردعهم من كبار القرية أو آبائهم، وهناك عشرات الحالات التى رويت عن ركاب أصيبوا بإصابات بالغة بسبب تلك الحوادث، أكثرها إثارة للحزن، تلك التى نشرها الدكتور خالد منتصر فى الأسبوع الماضى عن شاب كان متوجهًا لحضور امتحان نهاية العام بالجامعة، فأصابته طوبة غاشمة أفقدته إحدى عينيه، وأفقدته عامًا دراسيًا، وهو يعيش الآن بعين واحدة رغم ما أنفقه والده على علاجه، بسبب طوبة ألقاها طفل أو صبى أهوج، ارتكب جريمته ثم عاد إلى بيت أبيه ليعيش حياة اللامبالاة وسط أهل لم يحسنوا تربيته، مواصلًا عبثه كل يوم دون أن يدرى ما سوف تقترف يداه من ذنوب.
الحل الوحيد لهذه المشكلة، من وجهة نظر وزير النقل، كان من خلال عقاب أهالى القرى والبلدات التى لا تحسن تربية أبنائها بمنع وقوف القطار الذى يتعرض لإلقاء الحجارة فى محطاتها، وهو عقاب ممتاز وحاسم، لأنه السبيل الوحيد لإجبار الآلاف على أن يفهموا حقيقة أساسية، وهى أن الحفاظ على مرفق عام مهم، مثل القطار مسئولية الجميع وليست مسئولية هيئة السكك الحديدية أو رجال الشرطة وحدهم.
إلقاء الحجارة على القطارات دون أى سبب مفهوم، مسألة مهمة يجب التوقف عندها لأنها تعكس حالة التسيب الرهيبة التى يتعامل بها ملايين المصريين مع المرافق العامة التى تشكل عصب حياتهم، فنجد أن من يرتكب الحماقة ويُسىء إلى مرفق عام هو أول المتضررين من ذلك، ومع هذا لا يتردد فى أن يلعن أبوالبلد والحكومة والزمان والناس بسبب «الإهمال».
والأمثلة كثيرة، فمئات الآلاف منّا يذهبون إلى الحدائق العامة فى الأعياد والمناسبات، ليستمتعوا بالخضرة والورود والهواء النقى المنعش، وخلال وجودهم يرتكبون كل أنواع الحماقات، فيتركون الحديقة فى نهاية اليوم بلا خضرة أو ورود، أما الهواء المنعش فقد قتلوه بروائح بقايا الطعام التى ألقوها بإهمال شديد فى كل مكان! عشرات العمارات الكبيرة يتبارى سكانها فى تنظيف شققهم، والتباهى بأنهم أنظف من جيرانهم، لكن هؤلاء المتنافسين على النظافة لا يترددون فى إلقاء أكياس قمامتهم على بعد أمتار قليلة من عماراتهم الفاخرة، وحتى إذا تطوع أحدهم ونقل كيس القمامة إلى أقرب حاوية، فإنه يتكاسل عن إلقائها داخلها بل يلقيها بالقرب منها، وكأن على سيارة القمامة إن جاءت أن تجمع الأكياس والقمامة المتناثرة حول الحاوية قبل تفريغها فى السيارة، وتكون النتيجة أن تجد تلالًا من القمامة فى أحياء دفع سكانها مئات الآلاف من الجنيهات ليسكنوها، وقد تحولت بأيديهم إلى مقالب للقمامة تفوح منها الروائح الكريهة، وتتربى فيها أسراب الذباب غير الحشرات والزواحف وما خفى كان أعظم.
سيقول قائل إن الأحياء مهملة فى التخلص من القمامة، ولن أكذبك بصورة قاطعة، لكن لماذا يعتقد الكثيرون أن عليهم أن يفسدوا مكان سكنهم ثم يطالبون الحىّ بحمايتهم من أنفسهم؟ نعم، الأحياء مقصرة فى أشياء كثيرة، لعل أهمها أنها لا توقع غرامات على من يلقون أكياس القمامة بجوار عماراتهم.
الخلاصة أن هناك حالة لامبالاة عامة بين كثيرين منّا، خاصة ممن يعتقدون أن «الشارع ملك أيدينا وحدنا طالما أننا لن نجد من يحاسبنا»، فترى سيارات تنطلق بسرعة جنونية يقودها أطفال صغار، يعرضون حياة الناس وممتلكاتهم للخطر بسبب رعونتهم وافتقادهم أبسط قواعد القيادة، فتتحطم سيارات وتتكسر عظام ويصاب أبرياء بعاهات، دون أن يكون هناك رادع حقيقى يوقف هذه المهازل المرورية التى حولت القيادة فى شوارع القاهرة إلى مغامرة غير مأمونة العواقب.
مطلوب خطوات حاسمة تماثل قرار وزير النقل لضبط الحركة المرورية فى الشوارع، ولإعادة النظافة ولوقف الإساءة لمرافقنا العامة بأيدى العابثين والمستهترين.
مطلوبة حملات فى أكثر من اتجاه تعيد الانضباط للشارع المصرى الذى أصابه انفلات غير مسبوق بعد الفوضى التى تلت ٢٥ يناير، والتى ترجمت فى صورة بناء عشرات الأدوار المخالفة، وفتح آلاف المحلات دون ترخيص، واحتلال الأرصفة وانتشار القمامة فى كل مكان.
مطلوب حملات انضباطية حقيقية، لا مجرد حملات يهتم منظموها باصطحاب كاميرات التليفزيون معهم ليومين أو أسبوع، «وتعود بعدها ريما إلى حالتها القديمة»، نريد حملات دائمة يدرك فيها كل مواطن أن القانون سيقف إلى جانبه طالما أنه يعرف حدوده، وأن هذا القانون سوف يجعله يدفع ثمن إساءته إلى المجتمع أو إلى الشارع، ووقتها لن يكرر الخطأ مرتين أو ثلاثًا، ودون ذلك ستغرقنا الفوضى، لأن من أمن العقوبة أساء الأدب.