رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

واقعة «الكاديلاك».. لم يخطئ أحد!



غياب المتضرر، حتى هذه اللحظة، لو كان قد تضرر فعلًا، يجعلنا أمام «لا شىء» بحكم القانون. لكن سطوة شبكات التواصل الاجتماعى، شغلتنا بشيئين أو بروايتين للواقعة، قيل فى إحداهما إن شخصًا ضخم الجثة، عريض المنكبين، يتباهى ويهدد بنفوذه، اعتدى على آخر، وأوسعه ضربًا وشتيمة. بينما قالت الرواية الأخرى، رواية المتهم، إن الموضوع لم يكن أكثر من مشادة لفظية عادية على «ركنة» سيارة!.
عن الروايتين، تفرعت روايات أخرى بتفاصيل مختلفة. وبتعدد الروايات، وجدت الأكاذيب والمبالغات مكانها بين دفاع المدافعين وهجوم المهاجمين، ومحاولة مدعى الحكمة الوقوف فى منطقة وسط بين الطرفين، وقفزت إلى الواجهة قصص معادة الإنتاج، تستهدف التأثير فى الرأى العام، سلبًا أو إيجابًا. وأضف إلى ذلك أن المبالغة أو «التهويل» سلوك اجتماعى، عادى وطبيعى، لا يخلو منه مجتمع. وعادى وطبيعى أيضًا أن يتزايد فى ظل وجود أزمات، حقيقة كانت أم مفتعلة. بالضبط، كما تتزايد الشائعات وتجد طريقها إلى الانتشار.
النقاش، الحوار، أو الجدل بشأن مشكلة ما، قضية ما، أو أزمة ما، من المفترض أن يستهدف الوصول إلى حل يؤدى إلى تحقيق المصلحة العامة. غير أن التجرّد من التحيّز والتحامل، صعب. والوصول إلى الحقيقة، أصعب. ولا يوجد تصور واحد للموضوعية، لأنها تعتمد على السياقات والظروف ولأن ما قد يبدو موضوعيًا بالنسبة لشخص ما، يكون ذاتيًا بالنسبة لآخر، وما قد يعتقد البعض أنه مبادئ عامة أو كونية، يراه البعض الآخر ذاتيًا يخص مجتمعًا معينًا أو منطقة بعينها.
سبب هذه «المعجنة» هو أننا لا نرى الأشياء فحسب، بل نراها بطرق مختلفة، أو بالشكل الذى نحب أن نراها عليه، بغض النظر عن قربه من الحقيقة أو ابتعاده عنها. وقد تتضح الصورة لو توقفنا قليلًا عند ذلك الحادث، الذى استشهدت به إدارة الشرطة البريطانية (سكتولانديارد) فى محاضرة، سنة ١٩٧٧، عن كيفية استخلاص الحقيقة من سماع ومناقشة الشهود. والعهدة على المستشار أشرف العشماوى، الروائى المرموق حاليًا، رئيس نيابة أمن الدولة العليا سابقًا.
يومها، وجدوا أربعة شهود عيان على الحادث. قال الأول إنه شاهد سيارة حمراء تسير عكس الاتجاه مع سيارات أخرى خلفها لتصطدم برجل وامرأة يعبران الطريق فى اللحظة ذاتها التى سمع فيها صوت انفجار ثم شاهد ثلاثة أشخاص يفرون من البنك، أحدهم يحمل حقيبة ربما تكون بها أموال مسروقة. فى حين قرر الشاهد الثانى أن صوت الانفجار كان مدويًا وشاهد سيدة تخطف طفلة وتضعها فى سيارة سوداء يقودها رجل يرتدى قبعة كبيرة تُخفى ملامحه وهربا باتجاه الجنوب مسرعين. وقرر الشاهد الثالث أن الاصطدام كان نتيجة السرعة ومحاولة سائق السيارة الحمراء تفادى عبور طفلة للطريق ثم تفادى سيارة سوداء أخرى قادمة من الشمال. بينما قرر الشاهد الرابع أنه شاهد شخصًا بملامح شرقية، ربما يكون مصريًا، يحمل حقيبة تبدو ثقيلة، وعقب الانفجار، فر من مسرح الجريمة مع آخرين يشبهونه والحقيبة تبدو خفيفة أو خاوية.
بعد التحقيقات الموسعة، تبين أن الموضوع كان حادث سير عاديًا بسبب عبور رجل وامرأة الطريق والإشارة الضوئية حمراء متقطعة، وأن الشاهد الأول مواطن عربى يزور لندن لأول مرة ولم يكن يعرف أن السيارات تسير عكس ما هو متعارف عليه فى بلده، كما تبين أن الدوى الهائل نتج عن انفجار إطار سيارة نقل كبيرة على الجانب الآخر من الطريق، وأن البنك لم يتعرض لأى سرقة فى هذا اليوم وإنما ذعر المارة وعملاء البنك جعلهم يبدون فى حالة هروب، وأن الرجل والمرأة اللذين كانا فى السيارة السوداء واختطفا طفلة وهربا، لم يكونا سوى أبيها وأمها اللذين تأخرا على موعد طائرة، بينما ابنتهما تتلكأ لأنها لا تحب السفر إلى جدتها فى اسكتلندا. أما الشاهد الرابع الذى اتهم رجلًا بملامح شرقية بإلقاء قنبلة، فكان ضابطًا إسرائيليًا متقاعدًا، شارك فى حرب أكتوبر وتم أسره، وكان يخضع لجلسات علاج مع طبيب نفسى!.
كان ذلك قبل سنة ١٩٧٧، أما الآن، فصار استخلاص الحقيقة، أو الاقتراب منها، أكثر سهولة لوجود كاميرات مراقبة. والكاميرات لا تكذب. وطبقًا لما ذكره أحد من شاهدوا تفريغات إحداها، فإن «خناقة» راكب السيارة «الكاديلاك» وراكب «الهيونداى»، أو المشادة اللفظية بينهما، على «الركنة»، صاحبتها دفعة باليد من الأول، مع حركة أخرى، لم توضح الكاميرا إن كانت «لكمة» فى الوجه أم «زغدة» على الكتف. وفى كل الأحوال، سنظل أمام «لا شىء»، بحكم القانون، حتى يظهر المتضرر، لو كان قد تضرر فعلًا. ونتمنى ألا تجد من فج-رت الواقعة نفسها متهمة بالقذف، التشهير، وإساءة استخدام شبكات التواصل الاجتماعى.