رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

.. وما زالت فيها حاجة حلوة



دخل ملك الموت على نبى الله داوود، فنهض النبى، عليه السلام، وقال: أهلًا بأخى وحبيبى ملك الموت، أجئتنى قابضًا أم زائرًا؟.. قال: لا، بل جئت أعلمك بأمر هذا الشاب الذى فى مجلسك، بقى من عمره عشرة أيام.. «وكان عمر الشاب عشرين سنة، ويأتى ليجالس نبى الله».
اغتم نبى الله داوود، وأخذ يراقب هذا الشاب.. ومضت الأيام العشرة، والشاب لم يمت.. وإذا بملك الموت يدخل على نبى الله، بعد مرور ستة عشر يومًا، فنهض وقال: أهلًا بأخى وحبيبى ملك الموت، أجئتنى قابضًا أم زائرًا؟.. قال ملك الموت: بل جئت أعلمك بأمر هذا الشاب الذى خرج من مجلسك.. أمرنى ربى أن أقبض روحه، فمشيت شرقًا وغربًا، فلم أجد له لقمة يأكلها، ولا جرعة ماء يشربها، وما بقى له إلا أنفاس معدودة، هو يمشى، وأنا أمشى بجانبه، فمر به فقير، قال له أعطنى بالله عليك.. فمد الشاب يده فى جيبه وأخرج ستة دنانير وأعطاها للفقير.. فدعا له: أطال الله فى عمرك، وجعلك رفيق داوود فى الجنة.. فنادانى رب العزة: يا ملك الموت لا تقبض؟.. قلت: ربى لم تبق له لقمة يأكلها، ولا جرعة ماء يشربها، وما بقى له إلا أنفاس معدودة؟.. قال الله: أما رأيت ما أعطى الفقير؟، قلت بلى؟، أما سمعت دعاء الفقير؟، قلت: بلى.. قال: اذهب إلى نبى الله داوود، وقل له: السلام يقرئك السلام، ويقول لك: إن الله أعطى الشاب، بستة دنانير، ستين عامًا، لا يموت إلا وله من العمر ثمانون عامًا، وهو رفيقك يا داوود فى الجنة.
حكاية من الأثر، رأيت أن أعود إليها، وقد أعيانى السؤال: ما الذى حدث لنا؟، ماذا تغير فينا، فجعلنا أقرب إلى السوء منا إلى الطيب، إلى الشر أقرب من الخير، تتلاشى من شفاهنا كلمات الفضل، لتنطلق سهام الضغينة من ألسنتنا؟.. لم نعد نتحمل هفوات بعضنا، صار كل منا يترصد بأخيه، فيكيل على رأسه ألف صخرة وصخرة، يود لو أزهق بها حياته؟.. لم نعد نعرف حق الجار، ولا رفيق الدار، لم نعد نوقر كبيرنا ونعطف على صغيرنا.. صرنا نثأر من بعضنا الآخر، وكأن بيننا وبين الأيام ثأرًا، نقتص لأنفسنا منه، من بعضنا.. أسئلة دوخت رأسى وأذهبت عقلى، وجعلتنى، بعد أن كنت حليمًا، حيران.
مشكلة بين جارين، فى محلٍ ودار، بين صاحب عمل، ومقيمة فى شقة، أيًا ما كان الخلاف، وأيًا ما كانت تفاصيله وأسبابه وتداعياته، لا يستحق منا هذا الكم من التجاوز على صفحات التواصل الاجتماعى، نعاير الرجل السورى بغربته، وقدومه إلينا لاجئًا، فى بلده الثانى، دون أن نضع المشكلة فى حجمها الطبيعى، مشكلة بين مختلفين، على أى سبب، لا يهمنا، ولا تستحق منا فورة الفيس التى راحت تطيح بالأخضر واليابس من قيمنا العربية الأصيلة، ولا أقول من مبادئ ديننا الحنيف، دون أن تُبقى على شىء من أخلاقياتنا، التى تربينا عليها، من إكرام الضيف وإغاثة الملهوف، وأن نكون ميزان الحق بين متخاصمين، دون شطط أو اختلال.
رجل مفكر، وصاحب علم، يدلو بدلوه فى شخص أو موضوع، نختلف معه، دون أن نقدر علمه، ولا نحفظ له مكانته المهنية، ودون أن نؤمن بأن الاختلاف فى الرأى لا يفسد للود قضية.. يذهب البعض إلى الغليظ من القول، والبذىء من الألفاظ، ردًا على ما كتبه أو قاله، دون أن يكون لمضاهاة الحجة بالحجة مكان، ولا للرد بالمنطق سبيل.. وكأن ما تم الحديث بشأنه مقدسات لا تُمس، فى غير تماس مع ما قاله الإمام مالك، من أن «كُلُّ أَحَدٍ يُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِهِ وَيَرُدُّ إِلَّا صَاحِبَ هَذَا الْقَبْرِ»، ويقصد بِهِ النَّبِىّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَذَلِكَ لِكَوْنِهِ مَعْصُومًا مِنَ الْخَطَأِ، لِأَنَّهُ مَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى.
يقول أهل العلم إن أخلاق المؤمنين ليست أخلاقًا لوقت اليسر وفقط، لكن الأخلاق أكثر ما تظهر فى أوقات الشدة والعسر وأوقات الأزمة.. البعض تجده حسن الخلق، عفيف اللسان، حيى السلوك، ما دام هادئًا، وما دامت الظروف حوله ظروف راحة وسعة، فأما إن انقلبت الظروف، فحدثت له مواقف غضب، أو شدة أو تعسير أمر أو مثاله، إذا بك تجد شخصًا آخر غير الذى عرفته بحسن خلقه!.. إذا بك تجد غضوبًا شرسًا، شتامًا سبابًا، مخيفًا متعديًا، غليظًا فاحشًا!.. هذا نجده فى واقعنا كثيرًا، ونعايشه كثيرًا، حتى إنك ليصيبك الاستغراب والاندهاش من مدى تغير تلك الشخصية!.. ألهذه الدرجة لم تصل الأخلاق إلى القلوب والنفوس، ولم تستطع أن تغير حقيقة الصفات؟!
عن عبدالله بن مسعود، رضى الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ليس المؤمن بالطعان، ولا اللعان، ولا الفاحش، ولا البذىء).. فكيف ينقلب المرء إلى هكذا وصف سيئ مستنكر على لسان النبى صلى الله عليه وسلم فى لحظة لمجرد موقف أو كلمة أو خلاف؟!.. كنا نظن أن السفهاء هم قليلو العلم سيئو الخلق، من يتصفون بتلك الخطايا، لكننا فوجئنا بكثير ممن نظنهم من المتعلمين ذلك!.. قال القرطبى: (والبذىء اللسان يسمَّى سفيهًا؛ لأنَّه لا تكاد تتفق البذاءة إلا فى جهال الناس، وأصحاب العقول الخفيفة).. البعض يتحجج لفحشه وبذاءته بأنه استغضب، وبأن الموقف يحتاج إلى ذلك، وبأن الآخرين قد بدأوا بالخطأ، وبأن التعامل الهادئ فى تلك المواقف مضرة وسلبية!.. ولا شك أن ظنه ظن خاطئ قد يورد الناس موارد السوء، قال صلى الله عليه وسلم: (وإن امرؤ شتمك، أو عيَّرك بشىء يعلمه فيك، فلا تعيِّره بشىء تعلمه فيه، ودعه يكون وباله عليه وأجره لك فلا تسبنَّ شيئًا).
حينما نبحث فى تاريخ مصر منذ الفراعنة، نجد أن الأخلاق موجودة عند المصريين منذ فجر التاريخ، والحضارة المصرية القديمة تشهد بذلك، حيث الأخلاق هى ركيزة الحضارة، كما أثبته بالدليل القاطع العالم جيمس هنرى برستيد، فى كتابه (فجر الضمير) حينما قال: إن ضمير الإنسانية بدأ فى التشكل فى مصر قبل أى بلد فى العالم.. إذن، لماذا تغيرت أخلاقنا للأسوأ؟.. هل الفقر هو المسئول عن انهيار المنظومة الأخلاقية فى مصر؟.. هل منظومة التعليم هو المسئولة عن هذا؟.. هل العدالة البطيئة هى المسئولة فى المجتمع؟.. هل الإعلام الخاص هو السبب فى انهيار هذه المنظومة؟.. هل الانفتاح الاقتصادى الذى حدث منذ مطلع سبعينيات القرن الماضى أدى بشكل، ولو كان بطيئًا، إلى تغير منظومة الأخلاق؟.. قضية تحتاج إلى بحث.
حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين.