رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الزهاوى بين الشعر والعلم



من النادر أن تجد فى تاريخ الأدب العربى شاعرًا كبيرًا وعالمًا أو مهتمًا بالعلوم فى الوقت ذاته، كما فى حالة ليوناردو دافنشى، الذى كان رسامًا ونحاتًا عظيمًا وعالم جيولوجيا ونباتات أيضًا. وقد كانت دهشتى كبيرة، حين وقع بين يدى كتاب بعنوان: «الجاذبية وتعليلها.. جميل صدقى الزهاوى»، دراسة وتقديم الدكتور هادى عميرة. من الكتاب عرفت أن الشاعر العراقى العظيم، الزهاوى، كان منغمسًا فى الاهتمام بالعلوم، حتى إنه نشر فى عام ١٩١٠ بحثًا بعنوان: «الجاذبية وتعليلها».
ربما لهذا السبب كتب عنه طه حسين عميد الأدب العربى: «لم يكن الزهاوى شاعر العربية فحسب، ولا شاعر العراق، بل شاعر مصر وغيرها من الأقطار. فقد كان مربيًا لهذا الجيل الشعرى، إذ كان شاعر العقل، وكان معرى هذا العصر، لكنه المعرى الذى اتصل بأوروبا وتسلح بالعلم». وقد توفى الزهاوى عام ١٩٣٦، لكن بعد أن ملأ الدنيا بقصائده وأفكاره العلمية ومواقفه المتحررة، وكانت له فيما ترك من شعر قصيدة عذبة عن مصر، بعنوان «أحييك يا مصر الجميلة يا مصر»، أما موقفه من تحرر المرأة فقد جلب عليه المتاعب، حتى فصل من وظيفته فى إحدى مدارس بغداد بعد قصيدته الشهيرة، التى يقول فى مطلعها: «مزقى يا ابنة العراق الحجابا.. واسفرى فالحياة تبغى انقلابًا».
وكما يوضح الدكتور هادى عميرة فى كتابه، فقد كان للزهاوى اهتمام عميق بالفلك، والظواهر الطبيعية كالبراكين والزلازل، ثم بموضوع الجاذبية ومفهومها العلمى. وقد يستغرب البعض أن يجمع الإنسان بين الشعر والعلم بهذه الدرجة من القوة والترابط، إلا أن ذلك التعجب قد يزول إذا قرأنا ما كتبه ألبرت أينشتين، واضع نظرية النسبية، حين قال إن: «عنصر الشعر قائم فى كل تفكير علمى.. العلم الحقيقى والموسيقى الحقيقية يستلزمان نفس النوع من المجرى الفكرى»! هكذا يرى أينشتين أن للعالم والشاعر نفس الخصائص العقلية. توفى الزهاوى، وترك لنا عدة دواوين أصبحت من عيون الشعر العربى، منها: «ديوان الزهاوى»، و«ثورة الجحيم»، و«الثمالة»، وترجمته لرباعيات الخيام عن الأصل الفارسى، وترك- وهذا ما يمتاز به- عدة كتب ومقالات فى الشأن العلمى، تتناول الفلك وأسرار الضوء والظلمة والزلازل، ويستشهد د. هادى عميرة بمقتطفات مما كتبه الزهاوى فى ذلك، وقوله: «إن الزلازل لا تزال خفية أسباب ثورتها عن الأذهان» وكتب عن البراكين: «إن الأرض تغلى تحت الإنسان وهو نائم مطمئن، أى أن نارًا فى جوفها». ومع أن قانون الجاذبية كان قد اكتشف عام ١٦٨٧ بواسطة نيوتن، وتمت صياغة القانون فى رموز رياضية بواسطة العالم يوهانس كيبلر، إلا أن الزهاوى يعود إلى ذلك القانون ليشرحه ويفسره، ليس نثرًا فقط، بل وشعرًا أيضًا. ويقول الزهاوى فى كتابه «الجاذبية وتعليلها»: «إنى لإعدل عن الرأى القائل: إن المادة تجذب المادة، كما عدل جاليليو وكوبرنيكوس عن الرأى القائل: إن الشمس تدور حول الأرض، فأقول بعكس ما يقول علماء العصر إن المادة تدفع المادة فقط، وإن الشمس تدفع الأرض وسائر السيارات عنها فتبعدها، وإن الأرض تدفع القمر وسائر الأجسام فوقها.
نعم إن البشر مخطئون كل الخطأ فى اعتقادهم أن المادة جاذبة، بل المادة دافعة فليس بسائد فى كل الكون إلا قوة واحدة هى قوة الدفع، وأما ما نراه من جذب المادة فهو دفع مادة مقابلة لها أقوى من دفعها.. لذلك أنا لا أشك جاذبية كل جرم هى دافعة أجرام أخرى محيطة به». ربما لهذا السبب قال طه حسين عن الزهاوى: إنه المعرى وقد تسلح بالعلم! فى كل الحالات يبقى الزهاوى حالة نادرة، جديرة بالاهتمام، وبالمزيد من الكشف عن تراثه هناك حيث يتجاوز الحلم والعلم، والشعر والواقع. لقد اكتشف هادى عميرة خبيئة جميلة وقدمها إلينا، بحيث يمكننا أن نقول: إن لدينا فى تراثنا الأدبى دافنشى آخر. جدير بالذكر أن هادى عميرة ناقد، وروائى، له رواية بعنوان «جاذبية العقل»، وعدد من الكتب البحثية فى مجال الأدب والنقد.