رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أحمد بهاء الدين يكتب: معارك قاسم أمين

جريدة الدستور

ولد قاسم أمين فى الإسكندرية فى ديسمبر سنة ١٨٦٣ أو هذا على الأقل هو التاريخ الذى تشير إليه المصادر، إذ يظل الباحث يتساءل عن المسافة بين سنه الصغيرة والشهادات التى حصل عليها والمناصب التى تولاها، برغم أنه كان من سلالات الأتراك الذوات الذين كانت تنفتح أمامهم الطرق إلى الترقى فى سهولة ويسر.
وكان أبوه محمد بك أمين- من أسرة تركية عندما كانت الأسرة التركية- خصوصًا تلك المتيسرة نوعًا هى أرستقراطية العالم العربى كله، وهكذا كان محمد بك أمين كسائر الموظفين الأتراك الكبار ينتقلون بين المناصب فى مختلف أطراف العالم العربى الداخل فى دائرة الإمبراطورية. فهو محمد بك أمين لم يولد فى تركيا ولكنه ولد فى «السليمانية» عاصمة المنطقة الكردية فى شمال العراق حاليًا، حيث كان ابن عمه يعمل واليًا على المنطقة وقد عاد إلى إسطنبول حيث درس القانون ثم عاد إلى السليمانية ليكون بدوره واليًا.
وفى هذه الأثناء جاء محمد بك أمين فى رحلة إلى مصر وجاب الدلتا والقاهرة والصعيد وفى الصعيد تعرف إلى أسرة مصرية.
أعجب بها وتزوج إحدى بناتها وسافر بها إلى مقر عمله، وكانت له هناك زوجة تركية لم تنجب، فلما حملت زوجته المصرية بعد ذلك لأول مرة فرح فرحًا شديدًا، وجاء بها إلى مصر لتضع مولودها بين أهلها.. ولكن آلام الوضع فاجأت الزوجة فى الإسكندرية بعد وصولهما على السفينة بقليل، فوضعت فى الإسكندرية أول أبنائها «قاسم»، وعاد محمد بك أمين إلى السليمانية بزوجته المصرية وطفلهما قاسم، وهناك ولدت ابنه الثانى إبراهيم.
وكان محمد بك أمين فى إجازة من عمله فى إسطنبول عندما نشبت ثورة فى كردستان، فلم يعد إليها وسهلت له علاقاته العائلية أن تمنحه السلطات كما كان يحدث كثيرًا إقطاعية واسعة فى شمالى الدلتا ومحافظة كفرالشيخ حاليًا. فجاء إلى مصر لكى يستقر فيها ويستثمر إقطاعيته وكان قاسم وقتها فى الثامنة من العمر.
وعاشت الأسرة زمنًا فى الإسكندرية أقرب مدينة كبيرة إلى الأملاك الجديدة، ودخل قاسم مدرسة رأس التين ثم انتقلت الأسرة إلى حى الحلمية بالقاهرة، وانتقل هو إلى المدرسة التجهيزية «الخديوية الثانوية حاليًا»، ثم دخل مدرسة الحقوق وحصل على الليسانس سنة ١٨٨١ وكان أول الدفعة وعمره طبقًا للتاريخ الذى سبق ثمانية عشر عامًا فقط.
وقد أرسله أبوه ليتمرن فى مكتب المحامى مصطفى فهمى الذى أصبح بعد ذلك رئيس وزراء طوال ثمانية عشر عامًا متصلة تحت حكم الإنجليز، والذى صاهره بعد ذلك سعد زغلول حين تزوج ابنته صفية، ثم لم يلبث قاسم أمين أن سافر إلى فرنسا فى بعثة ليدرس القانون.
حضر قاسم أمين فى تلك الفترة مقدمات الثورة العرابية وذهب إلى قهوة «متاتيا» عند سور الأزبكية، حيث عرف جمال الدين الأفغانى وتحلق مع شباب آخرين من حوله كسعد زغلول.. ورجال أكبر منه قليلًا منهم محمد عبده وعبدالله النديم وأديب إسحق.
كتب عن هذه الفترة بعد ذلك يقول: «فى عهد الاستبداد فى الوقت الذى كانت فيه كلمة الخديو تكفى لإعدام من يغضب عليه فى تلك الأيام السود التى كانت حياة الإنسان وحريته وأمواله مهددة بالضياع، ولم يكن لأحد مهما كان مقامه ضمانة تحميه، فى ذلك العهد ظهر أفراد وجدوا من شعورهم ما دفعهم إلى صد إرادة الحاكم والتصريح بآرائهم».
لا شك أن قاسم أمين قد امتزج بالعاطفة الوطنية المتحررة التى كانت من مقدمات الثورة العرابية، بخاصة أنه عرف أقطابها عن كثب ولا شك أنه قد سافر إلى فرنسا مبعوثًا مفعمًا بآمال بلاده.
وفى باريس تابع تطور الأحداث المحزن: هجوم الإنجليز على مصر وكسر الثورة العرابية والمحاكمات والفرار والاختفاء.
لقد أخفقت محاولة أخرى..
وجاء الأفغانى ومحمد عبده إلى باريس منفيين، وعندما أصدرا جريدة «العروة الوثقى» أسهم فيها معهما وأخذ يساعد محمد عبده على تعلم اللغة الفرنسية ثم لاحق الاضطهاد الدولى أنفاس الحركة الوطنية التى بدأت تتردد على صفحات «العروة الوثقى» فى باريس حتى أخمد هذه الأنفاس وأغلقت «العروة الوثقى» بعد صدورها بأشهر قليلة.
نستطيع أن نتصور قاسم أمين معذبًا فى بلاد الغربة بهذه الشجون كلها.. هو الذى ترك بلاده تنبض بالآمال وتموج بحركة وطنية وتحريرية مباشرة.. وها هو ذا يرى على البعد أنفاس هذه الحركة قد أخمدت ودولة كبرى قادرة قد جثمت على صدر هذه الأحلام التى اختنقت.
وها هو ذا يعقد المقارنات أو يبدأ فى تأمل الأشياء من زوايا جديدة «لو قورن بين مصر ومدن الدول الأخرى مثل لندن وباريس لظهرت فى حالة محزنة كما لو وضعت سائلة ذات أطمار قذرة بالية فى جانب عروس متحلية بأفخر الملابس وأغلى الحلى وأبهاها، وفى الحقيقة أن مصر بلاد فقيرة جدًا نصف أهلها- وهم الفلاحون- يعيشون بالشىء التافه الذى يقى الحى من الموت جوعًا».
وهو بحكم ثقافته الشرقية واختلاطه بمحمد عبده المحارب فى ساحة التجديد الدينى يبدأ يدرس ما فى بلاده من عادات وتقاليد وأيها من الدين الصحيح وأيها دخيل؟ فهو يكتب فيما بعد فى كتابه «تحرير المرأة» خاطرًا ألح عليه كثيرًا «لم يعتقد المسلم أن عوائده لا تتغير ولا تتبدل وأنه يلزمه أن يحافظ عليها إلى الأبد؟.. مع أنه هو وعوائده جزء من الكون الواقع تحت حكم التغيير والتبديل فى كل آن؟ أيقدر المسلم على مخالفة سنة الله فى خلقه إذ جعل التغيير شرط الحياة والتقدم والوقوف والجمود مقترنين بالموت والتأخر؟».
وإذا كان لكل نفس طبيعتها وميولها فلا شك أن قاسم أمين لم يكن صاحب تلك الطبيعة التى تجعله محاربًا كسعد زغلول أعز أصدقائه مثلًا، ولكنه كان مرهف الحس للفنون والجماليات والقضايا الاجتماعية، فيعلن أنه «من أكبر أسباب انحطاط الأمة المصرية تأخرها فى الفنون الجميلة: التمثيل والتصوير والموسيقى. هذه الفنون ترمى جميعها إلى غاية واحدة هى تربية النفس على حب الجمال والكمال وإهمالها هو نقص فى تهذيب الحواس والشعور».
وبهذا التكوين وهذه الميول يتعرض لتجربة يتعرض لها كثيرون من الشبان الشرقيين الذين يسافرون إلى أوروبا، تجربة التعرف إلى المرأة الأوروبية. فبعض المراجع تحدثنا عن فتاة فرنسية اسمها «سلافا» أغلب الظن أنه كانت بينه وبينها قصة هوى مشبوب.
على أنه فيما يبدو لم يعرف «سلافا» خلال علاقة لاهية كما يحدث لآخرين، إنما كانت بينهما علاقة ملكت عليه حواسه تفهم هذا من سطور فى كتاباته عن الحب، سطور فيها إحاطة بكل ما يعرض للمرء فى حالات الوجد العنيف.. فالحب كما يصفه «مرض يقاسى فيه العاشق عذابًا يظهر باحتقان فى مخه وخفقان فى قلبه واضطراب فى أعصابه واختلال فى نظام حياته، ويظهر على الأخص فى الأكل والنوم والشغل ويجعله غير صالح بشىء سوى أن يقضى أوقاته شاخصًا إلى صورة محبوبته مستغرقًا فى عبادتها، ذاكرًا أوصافها وحركاتها وإشاراتها وكلماتها.. نظرة من عيون محبوبته تملأ قلبه فرحًا وتجعله يتخيل أنه يمشى فى طريق مفروش بالورد، أو أنه راكب سحابة أو طائر فى المرتفعات العالية، فى هذه اللحظة يكون أسعد من أكبر ملوك الأرض، فإذا انقضت عاد إلى ما كان فيه من عذاب وآلام».
تدقيق لا يترك شكًا فى سبق معاناة صاحبه، وأسلوب يذكرنا بأسلوب الكاتب الأندلسى القديم «ابن حزم» فى كتابه «طوق الحمامة».
وسواء أكانت هناك «سلافا» أو لم تكن، فلا شك أن قاسم أمين قد استوقف نظره بوجه خاص وضع المرأة فى المجتمع المتقدم، وأكثر من ذلك علاقة المرأة بالرجل والمعانى العميقة للحب وللزوجية.. ففى هذا المجال نجده يكتب صفحات من أجمل صفحات كتابه هذا عن تحرير المرأة.
«اللذة الجسمانية المتحدة فى النوع مهما تخالفت فى الأفراد، فهى دائمًا واحدة، فإن أفراد اللذة المتحدة فى النوع تتشابه إلى حد تكاد لا تتميز إلا باختلاف الزمان أو المكان مثلًا، فما يحصل منها أولًا هو ما يحصل ثانيًا وثالثًا ورابعًا وهكذا..».
«ومن البديهى أن تكرار لذة بعينها مهما كانت سواء كانت لذة نظر أو لذة سمع أو لذة ذوق أو لذة لمس يفضى فى الغالب إلى فقد الرغبة فيها، فيأتى زمن لا تتنبه الأعصاب لها لكثرة تعودها إياها. والأمر بخلاف ذلك بالنسبة للذة المعنوية، هذه اللذة فى طبيعتها يمكن تجددها فى كل آن».
«تأمل فى مسامرة صديقين تجد أنها كنز سرور لا يفنى متى تلاقيا يفرغ كل منهما روحه فى روح الآخر، فيسرى عقلهما من موضوع لموضوع.. كل عمل أو فكر أو حادث أو اختراع يكسب عقلهما غذاء جديدًا، ويفيد نفسيهما لذة جديدة، كل مظهر من مظاهر حياة أحدهما العقلية والوجدانية وكل ما تحلت به نفسه من علم وأدب وذوق وعاطفة، تنعكس منه على نفس الآخر لذة جديدة.. ويزيد فى رابطة الألفة بينهما عقدة جديدة».
«ومن هنا يعلم مقدار سلطان الحب الحقيقى على الإنسان، وكيف أن العارف يعتبر العثور على ذلك الحب الشريف، من أكبر السعادات فى هذه الدنيا. فإن كل المال زينة الحياة فالحب هو الحياة بعينها».
«فهذا الحب لا يمكن أن يوجد بين رجل وامرأة إذا لم يوجد بينهما تناسب فى التربية والتعليم، ويجب ألا يفهم أن الرجل المتعلم إذا لم يحب زوجته فهى يمكنها أن تحبه. فإن توهم ذلك يعد من الخطأ الجسيم، لأن الحب الحقيقى الذى عرفت عنصريه المادى والمعنوى، لا يبقى إلا بالاحترام، والاحترام يتوقف على المعرفة بمقدار من تحترمه والمرأة الجاهلة لا تعرف مقدار زوجها».
«سلْ جمهور المتزوجين: هل هم محبوبون من نسائهم يجيبونك: نعم لكن الحقيقة غير ما يظنون، إنى بحثت كثيرًا فى عائلات مما يقال إنها فى اتفاق تام، فما وجدت إلى الآن زوجًا يحب امرأته ولا امرأة تحب زوجها، أما هذا الاتفاق الظاهرى الذى يشاهد فى كثير من العائلات، فمعناه أنه لا يوجد شقاق بين الزوجين.. إما لأن الزوج تعب وترك وإما لأن المرأة تركت زوجها يتصرف فيها كما يتصرف المالك فى ملكه، وإما لأنهما كليهما جاهلان لا يدركان قيمة الحياة.. وهذا الحال الأخير هو حال أغلب الأزواج المصريين».
ولا أرى ما يقرب من السعادة إلا فى هذا النوع الأخير، وإن كانت سعادة سلبية لا قيمة لها، أما فى النوعين الأولين فقد اشترى الوفاق بثمن غالٍ وهو فناء أحد الزوجين فى سبيل إبقاء الآخر، وغاية ما يمكن أن أسلم به هو أنه قد يشاهد فى عدد قليل من الأزواج شىء يقرب من المودة يظهر فى بعض الأحيان ثم يختفى، وهو استثناء يؤيد القاعدة وهى عدم الحب من طرف الزوج، لأن امرأته متأخرة عنه فى العقل والتربية تأخرًا فاحشًا بحيث لا تكاد توجد مسألة يمكن أن يتحدثا فيها لحظة بسرور متبادل ولا يكاد يوجد أمر يتفقان فى الحكم عليه برأى واحد. ولأنها بعيدة عن العواطف والمعانى والأشغال التى يميل إليها، ومغمورة فى شئون ليس لها فى ميله نصيب حتى إنها فى الأمور التى هى من عملها، وترى أنها خلقت لأجلها لا يرى منها زوجها ما يروق نظره. فأكثر النساء لم يتعودن تسريح شعورهن كل يوم ولا الاستحمام أكثر من مرة فى الأسبوع، ولا يعرفن استعمال السواك ولا يعتنين بما يلى البدن من ملابس، مع أن نظافتها لها أعظم تأثير فى استمالة الرجل، ولا يعرفن كيف تتولد الرغبة عند الزوج، وكيف يحافظ عليها وكيف يمكن تنميتها وذلك لأن المرأة الجاهلة تجهل حركات النفس الباطنة، وتغيب عنها معرفة أسباب الميل والنفور. فإذا أرادت أن تستميل الرجل جاءت فى الغالب بعكس ذلك.
وأما عدم الحب من طرف المرأة، فلأنها لا تتذوق معنى الحب ولو أردنا أن نحلل إحساسها بالنسبة لزوجها نجد أنه يتركب من أمرين: ميل إليه من حيث هو رجل أبيح لها أن تقضى معه شهواتها، وشعور بأن هذا الرجل نافع للقيام بحاجات معيشتها. أما ذلك الامتزاج بين روحين اختارت كل منهما الأخرى امتزاجًا يؤلف منهما موجودًا واحدًا.. فهى بعيدة عنه بُعد السماء عن الأرض.
وإذا كنت قد أسهبت فى نقل هذه الصحفات بالذات من كتاب «تحرير المرأة»، فالسبب هو أننى أعلق عليها أهمية خاصة فى النظر إلى قاسم أمين وإلى كتابه.
ذلك أننى أعتقد أن القيمة الكبرى للكتاب ليست فيما «طالب به» فى النهاية. فما الذى طالب به بعد كل شىء؟
تعليم المرأة حتى التعليم الابتدائى، أن تسير المرأة فى الشارع سافرة الوجه والكفين فقط، تعديل قوانين الزواج والطلاق «تعديلات لم تدخل بعد»، وبرغم خطورة هذه المطالب فى ذلك الوقت، أعتقد أنه لو كان الأمر هو مجرد المطالبة بها، لما ثارت عليه هذه الضجة ولما تعرض المؤلف لما تعرض له من حملات ومن صنوف التشهير.
إن القيمة الكبرى للكتاب فيما يقدمه: تحليل جرىء ونظرة نفاذة فى صميم وضع المرأة وعلاقات المرأة بالرجل ومعنى الزواج والأمومة والأبوة.
هذه العلاقات التى ركدت واستقرت مئات السنين على شكل معين لم يأت قاسم أمين ويتحدث عنها من الخارج مطالبًا فقط بأن تتعلم المرأة القراءة والكتابة وتكشف عن وجهها وكفيها.. ولكنه غاص فى أعماقها غوصًا شديدًا، وهز قناعات ومسلمات لدى الرجل والنساء على السواء حول قضايا بالغة الحساسية.
إنه يكتب كلامًا «يجرح» به شعور كل رجل وامرأة.. يقول لكل رجل وامرأة.. ليس ما بينكما هو الحب.
ما تعيشون فيه ليس هو الزواج بمعناه الحقيقى.. ليس صحيحًا أنك تحب امرأتك أو أنكِ تحبين زوجك.