رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

جرائم الإخوان ضد القضاء


فى صباح يوم الإثنين الموافق ١١ من جمادى الأولى ١٣٦٧هـ، ٢٢ من مارس ١٩٤٨ فى الساعة الثامنة صباحًا من ذلك اليوم الشاتى الذى داعبت شمسه برودته، فخففت من صقيعه، وفى ذلك الصباح المبكر خرج المستشار أحمد الخازندار كعادته من منزله بشارع رياض باشا بحلوان، وكان يسير مُترجلًا فى طريقه إلى محطة حلوان ليركب القطار إلى القاهرة، وهو يحمل حقيبته التى تعوَّد أن يضع فيها ملفات القضايا التى يسهر على دراستها وفك ألغازها، وبعد عدة خطوات من منزله تقدم منه شابان بخطوات سريعة متعجلة، وبسلامة نية ابتسم لهما المستشار وألقى عليهما تحية الصباح، ولكن أحدهما أخرج من جيبه «غدَّارة» محلية الصنع وأطلق عليه وابلًا من الرصاص فسقط قتيلا فى الحال، وسالت دماؤه على أرض حلوان، وزوجته تنظر إليه من شرفتها فتصاب بالهلع وتنزل للطريق مهرولة وهى تبكى زوجها الذى لم يخضع لأى تهديد، وعلى الفور قام الأهالى بتبليغ الأمر إلى قسم حلوان، وكان الضابط النوبتجى فى قسم حلوان هو الكونستابل فتحى عبدالحليم الذى توجه بسرعة إلى مكان الحادث للقبض على الجناة.

عودُ على بدء لنقُل إن أول من أبلغ القسم بالحادث وأول شاهد على جريمة القتل هو رجل بسيط «عجلاتى» من عامة المصريين الذين عُرفوا بالشهامة والمروءة، وكان دكان هذا العجلاتى يقع على بعض خطوات من منزل الخازندار، وحدث أن سمع أصوات طلقات الرصاص فجفل منها، وحين نظر لمصدر صوت الرصاص رأى المستشار الخازندار مُلقى على الأرض والدماء تنزف من جروح فى صدره، لدرجة أنها سالت على الطريق واختلطت بترابه، كما رأى على بعد خطوات منه شابين يجريان وهما يحملان «غدَّارتين» فصرخ العجلاتى واستنجد بالناس الذين قاموا بمطاردة المجرمين، فألقى أحد المجرمين قنبلة على المطاردين له ولكن من فضل الله لم تنفجر، ثم ألقى بقنبلة أخرى ولم تنفجر أيضًا، وأظنك ستتعجب من هاتين القنبلتين اللتين كانتا من الممكن أن تفتكا بالأبرياء الذين لا ناقة لهم ولا جمل فى الأمر كله، ولكنها العقائد الفاسدة المفسدة التى اعتبرت الدين وسيلة للدنيا والحكم مهما أريقت من أجلهما الدماء.

وكان أن تكاثر الناس خلف المجرمين اللذين لم يجدا مفرًا من الاتجاه إلى طريق الصحراء والناس من خلفهما يجرون، حتى وصل المجرمان إلى هضبة عالية ووقفا مهددين الجمهور بأنهما سيطلقان الرصاص عليهم، وفى ذلك الوقت كانت قوات الشرطة قد عرفت موقع المجرمين، فأحاط البوليس بالمكان وبدأ فى إطلاق النار، ولم يرد المجرمان على النار بالمثل، نظرًا لعدم وجود رصاص معهما، فكان أن تم القبض عليهما، وتعرف البوليس على القاتلين، وعرضهما على الشهود الذين أكدوا بالإجماع أنهما اللذان أطلقا الرصاص على المرحوم الخازندار، كان القاتل الأول اسمه: محمود سعيد زينهم، طالب بمدرسة الصناعات الميكانيكية يبلغ من العمر إحدى وعشرين سنة، وكان يقيم بشارع عباس بالجيزة، ومن تاريخه أنه كان أحد أبطال مصر فى المصارعة فى وزنه حيث فاز بالبطولة عدة مرات، ولكنه ترك التعليم الثانوى لتكرار رسوبه والتحق بالمدرسة الصناعية. أما القاتل الثانى فهو حسن محمد عبدالحافظ ٢٤ سنة، طالب بالتوجيهية ويسكن بالمنزل رقم ١٢ شارع نافع بن زيد بالجيزة، ومن المصادفات العجيبة أن يكون والدا المجرمين مدرسين للغة العربية، فكان والد الأول مدرسًا بمدرسة حلوان الثانوية، لذلك كان هذا المتهم يعرف دروب حلوان ومخارجها، وكان ذلك سببًا فى اختياره لهذه المهمة، أما والد الثانى فكان مدرسًا بإحدى المدارس الثانوية للبنات بالجيزة. واتضح من التحقيقات أن المتهم الثانى رسب عدة مرات أثناء فترة دراسته، ومن خلال الحوارات التى أجرتها الصحف وقتها مع أسرته، عرف الناس أن هذا الولد كان يحب لعب الرياضة، وكانت لعبته المفضلة هى الهوكى، ومن الغريب أنه كان أحد أفراد هذه اللعبة فى فريق النادى الأهلى.

ويروى «أحمد عادل كمال» أحد أفراد الرعيل الأول بجماعة الإخوان فى كتابه «النقط فوق الحروف»، قصة هذا الاغتيال المؤسف، فيقول: «وقع الاختيار على حسن عبدالحافظ ومحمود سعيد زينهم لاصطياد الرجل، وبعد مراقبة الرجل أيامًا، علم أنه يذهب إلى المحكمة فى باب الخلق بالقاهرة ويعود إلى حلوان بالمواصلات العادية، سيرًا على الأقدام إلى محكمة سكة حديد حلوان ثم قطار حلوان إلى باب اللوق ثم المواصلات المعتادة، كذلك أبانت الدراسة أن قسم بوليس حلوان لا تتبعه سيارات! وعلى ذلك وضعت الخطة أن ينتظر خروج الرجل من بيته، فيغتاله حسن بالمسدس بينما يقف له محمود حارسًا وحاميًا لانسحابه بالمسدس وبقنابل يدوية صوتية، ثم ينسحبان ويمنعان تتبعهما من الجماهير بإطلاق الرصاص فى الهواء وإلقاء القنابل، ويكون انسحابهما فى غير تتبع من أحد إلى بيت عبدالرحمن السندى، رئيس الجهاز السرى بالجماعة، ولقد باتا ليلة الحادث أيضًا عنده فى هذا البيت، بيت عبدالرحمن السندى، وفى الصباح الباكر وقبل الموعد المعتاد لخروج الخازندار من بيته كان الصائدان يترصدان ذلك الخروج، ثم خرج فى خطوات وئيدة لا يدرى ما هو مبيت له، وكان محمود بعيدًا بعض الشىء يرقب الطريق والمارة ويرقب أيضًا أخاه فى المهمة، بينما تقدم حسن وأطلق بضع طلقات لعلها كانت ثلاثًا لم تصب الهدف ولم يُضع محمود الفرصة، فترك مكانه وتقدم نحو الخازندار وقيل إنه أمسك به من ذراعه وأوقعه إلى الأرض، فقد كان محمود مصارعًا ورياضيًا وكان مكتمل الجسم مثل الجمل الأورق، وصوب إليه مسدسه فأفرغ فيه ما شاء، ثم تركه وانسحب بزميله وقد خرجت الأرملة تصيح من الشرفة وتقول (ألم أقل لك؟ يا أحمد بك ألم أقل لك...؟) (أنا مش قلت لك...؟)».

ثم حدثت مفاجأة قدرية لم يضع لها أحد منهم حسبانًا، ذلك أن القسم الذى كان معلومًا خلوه من السيارات تصادف بقدر الله أن جاءته من القاهرة سيارة فى تلك اللحظة لنقل بعض المحجوزين به، فانطلق الكونستابل الذى كان يصاحب السيارة بها فى أثر الفارين. فتغير الموقف فاتجه القاتلان محمود وحسن صوب الجبل بدلًا من اتجاههما إلى بيت عبدالرحمن السندى بحلوان، واجتازا فى انسحابهما هذا بعض أسوار الحدائق والبيوت، وسقط حسن فجزعت قدمه، واضطر محمود أن يحمله أو يسنده بعض الوقت، وتوالت قوات البوليس من القسم نحو الجبل، ثم لم يلبث أن ضرب على الجبل حصارًا من العباسية إلى حلوان على مسافة تزيد على ثلاثين كيلومترًا، وتقدمت تلك القوات إلى داخل الجبل الأجرد، فقبضت على محمود وحسن، وساعتئذ أنكرا كل صلة لهما بالحادث، وجرى التحقيق ليلتها فى قسم حلوان بمعرفة وكيل النائب العام محمود بك منصور ثم نقلا إلى القاهرة، وطال التحقيق وكذلك طالت فترة المحاكمة، وتظاهر حسن عبدالظاهر بالمرض العقلى، فأحيل إلى مستشفى الأمراض العقلية بالعباسية، وقدمت البحوث والتقارير والمناقشات حول مرضه ومدى مسئوليته الجنائية فى ظل الحالة التى تنتابه. وأخيرًا صدر الحكم فى ٢٢ من نوفمبر ١٩٤٨ على محمود زينهم وحسن عبدالحافظ بالأشغال الشاقة المؤبدة.

وإن أنسى لا أنسى أبدًا ما قاله لى أحمد عادل كمال وهو جالس معى فى مكتبى فى غضون عام ٢٠٠٢ من أنه شارك فى عملية اغتيال ولم يتم القبض عليه فيها، وإنه إلى الآن لا يزال مضطرب الفؤاد يبكى عندما يخلو إلى نفسه خوفًا من الله بسبب هذا الجرم، وقد كتبت ما قاله لى فى مقالة نشرت عام ٢٠٠٢، فضلًا عن تدوينى لما قاله لى فى كتابين من كتبى، وقلت: لقد أيقن الرجل بعد أكثر من خمسين عامًا أنه ارتكب جريرة خالف فيها الإسلام مخالفة صريحة، ورغم أنه تاب وأناب ومزق نياط قلبه من البكاء، إلا أنه لم يكتب للشباب الجدد عن خطيئته ولم يحذرهم من الوقوع فى مثيلاتها، فكتبت أنا شهادته هذه وقلت: وكأن الله كتب علينا أن ننتظر خمسين عامًا أخرى ليعرف الشباب الجدد حين يصلون لسن الشيخوخة الفانية، أنهم ارتكبوا خطيئة فى حق الدين والوطن.

أما كيف اشترك أحمد عادل كمال فى اغتيال الخازندار، فهذا هو الاعتراف الذى صدر منه فى الرابع عشر من أغسطس من عام ٢٠١٤ حيث قال فى حوار له بموقع «ويكيبيديا الإخوان» الإلكترونى إنه شارك فى عملية اغتيال الخازندار، إذ إنه كان يعمل موظفًا فى بنك القاهرة وكان الإخوان يبحثون عن عنوان الخازندار فلا يجدونه، فقد كان سكنه محاطًا بسرية كبيرة لأنه سبق وأن تلقى تهديدات بالقتل، وتصادف أن قام المستشار الخازندار بفتح حساب فى بنك القاهرة، وكان أحمد عادل كمال موظفًا فى هذا البنك وكان هو الذى استقبله وأخذ منه بياناته ومنها عنوان سكنه، وبعد أن عرف العنوان وأنه كائن فى شارع الرياض بحلوان، قام بتقديم هذه البيانات لعبدالرحمن السندى الذى كان هو المسئول الأعلى له، وهذا يدل على أن الاتفاق على قتل الخازندار كان منتهيًا ومتوافقًا عليه داخل الجماعة، ثم قام أحمد عادل كمال بالذهاب إلى العنوان وقام بعمل رسم كروكى له، كما كان هو الذى أجرى عملية رصد «الهدف» وتتبع خط سيره يوميًا، وبعدها قام السندى بتكليف الشابين اللذين وقع عليهما الاختيار فقاما بالجريمة.

نعود إلى حادث اغتيال الخازندار لنقرأ معًا ردود فعل المجتمع المصرى بأسره على تلك الجريمة النكراء، فمما لا شك فيه أن هذا الحادث كانت له ردود فعل سيئة فى جميع المجالات، فلدى القضاة كان الاستياء على أشده.. وكان الغضب قد تملك الأفئدة، ولكن طبائع العدالة لا تحملها دائمًا على محمل الغضب، والقضاة جُبلوا على العدالة، فهذه هى رسالتهم ومنظومتهم وعقيدتهم التى لا يحيدون عنها قيد أنملة، لقد كان اغتيال الخازندار جريمة قتل جزاؤها الإعدام، ولكن عدم الحكم بالإعدام ربما كان بسبب أن جريمة وقعت على قاضٍ أعزل لغير جريرة ارتكبها، والقضاء لا يثأر لنفسه ولكنه يقيم العدل، وقد وضعت المحكمة التى حكمت فى القضية، فى اعتبارها أن المتهمين فى أوائل فترة الشباب ما زالا غضّين صغيرين، وما زال عقلاهما محدودين مكدودين، وأن هناك من استغل مشاعرهما، فوجهها إلى طريق الدمار، ومن أسف أن هذا الذى استغل عقول الشباب لم يتم تقديمه للمحاكمة، أما أعجب ما قد تقرؤه وأنت تتصفح أوراق قضية مقتل الخازندار، أن النيابة العامة استدعت حسن البنا فى بداية التحقيق، فأنكر معرفته بالشابين، لكن النيابة تمكنت من إثبات أن المتهم الأول حسن عبدالحافظ كان السكرتير الخاص لحسن البنا! ويا لغرابة إنكار البنا وكذبه الواضح فى التحقيق، ولكن عندما واجهته النيابة بالأدلة اعترف بمعرفته للمتهم، إلا أنه نفى علمه بنية المتهمين باغتيال الخازندار، وكأن سكرتيره الخاص سيذهب ليقتل ويسفك الدماء ويريح الجماعة من هذا المستشار الذى تمنى مرشده أن يزيحه أحدهم من طريق الحياة دونما أن يكون لدى الشيخ حسن البنا أى خبر.

ولن نشغلكم هنا بردود فعل الإخوان أو بمزاعمهم التى كتبها بعضهم من تحقيقات داخلية تمت عندهم وإنكار من المرشد، واعتراف من السندى فى التحقيقات الداخلية بأنه كان ينفذ أمر المرشد، كل هذه الأشياء لا قيمة لها ولا طائل من ورائها. فقد وقع الحادث وسُفك الدم ومات المستشار. وللتاريخ فإن قضية اغتيال الخازندار قيدت تحت رقم ٦٠٤ جنايات حلوان سنة ١٣٦٧هـ - ١٩٤٨م، وإذا قررت أن تقرأ باقى ما كتبه الإخوان عن تلك القضية فستجدهم يشيرون إليها دائمًا تحت عنوان «مصرع الخازندار»، وكلمة مصرع لها سببها الشرعى عندهم، فهم لا يعترفون بأن قتلهم له كان خطأً أو جريمة، ولكنهم يعتقدون أنهم قتلوه لتطبيق شرع الله، لذلك لا يقولون: «مقتل الخازندار» ولكن يقولون «مصرع» على ظن منهم أن ظلم هذا المستشار وحكمه بغير ما أنزل الله هو الذى قتله وبالتالى فهو مات صريعًا وليس قتيلًا.

وللتاريخ أيضًا فإنه فور وقوع الحادث انتقل إلى مسرح الجريمة، رئيس الوزراء فى ذلك الوقت محمود فهمى النقراشى الذى قتله الإخوان أيضًا بعد هذه الواقعة بعدة شهور، وكأنه جاء يعاين الجريمة التى ستقع عليه قريبًا، وكان من الذين انتقلوا إلى مسرح الجريمة رئيس محكمة الاستئناف محمد محمود باشا، وعبدالرحمن عمار وكيل الداخلية، ومرتضى المراغى، مدير الأمن العام، فقد كانت هذه الجريمة أول جريمة قتل عبر تاريخ مصر الحديث تقع على مستشار بحجم الخازندار، وفى سنواتنا الفوائت قام الإخوان باستنساخ تلك الجريمة النكراء واقترفوها ضد المستشار الشهيد هشام بركات النائب العام رحمه الله، ولم تبق من ذكرى الخازندار إلا تلك المشاعر الحزينة التى اجتاحت قلوب أهل مصر، إذ شعروا بأن الاعتداء على قدسية القضاء يعد شيئًا خطيرًا ليست له سابقة فى مجتمعنا، ولذلك قرر مجلس الوزراء منح أسرة الخازندار مبلغ عشرة آلاف جنيه وصرف معاش استثنائى لهم، وتعليم أولاده بالمجان على حساب الدولة، ولكن أقلام الإخوان تحركت وكتبت وغيّرت التاريخ حتى بتنا نسمع صرير أقلامهم التى أهالت التراب على قاضٍ من أعلى قضاة مصر. كان هذا هو التاريخ، وتاريخ ما أهمله التاريخ، ومن خلاله رسمنا الصورة الحقيقية لأحد قضاة مصر كان فى طريقه لإقرار العدالة ولكن غيلان الإرهاب قتلوه.