رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

ناطحات السحاب والتكنولوجيا والاستهلاك.. ثلاث ديانات جديدة


منذ أيام، عادت «فريدة»، إحدى صديقاتى، من رحلة إلى الولايات المتحدة الأمريكية، استغرقت شهرين.. عادت صديقتى، وهى «مبهورة»، بكل ما رأته هناك. قالت فريدة: «هو ده مجتمع الحرية، والديمقراطية، من الدرجة الأولى.. أما إحنا شاطرين بس فى انتقادهم، والهجوم عليهم.. السباق معهم محسوم مقدمًا لصالحهم.. طبعًا لهم حق يتفرعنوا ويحكموا العالم ويعملوا كل اللى عايزينه».. هناك الكثيرون، الذين يفكرون مثل صديقتى «فريدة»، وينبهرون مثلها بالمجتمع الأمريكى. وهم يؤكدون، أن النمط الأمريكى، فى الحياة، ما زال «حلمًا» يداعب الشباب، من جميع الجنسيات.

لست أنكر الحرية الكبيرة المتاحة على مستوى الإعلام، والجدل السياسى، والفكر، والثقافة، والإبداع. لكن هذه الحرية، ليست نتاج ديمقراطية حقيقية، خلقتها العدالة، والمساواة، بين البشر. هى حرية، تعكس «الرسوخ» القوى، للنظام الرأسمالى الأمريكى، وفرض سطوته السياسية، بحيث إن حرية التعبير، والنقد، والجدل، لا يهز الاستقرار، على العكس، فإن ضمان هذه الحرية «الشكلية»، فى صالح النظام. حيث تضفى عليه، مسحة الديمقراطية، والتسامح الحضارى. والنتيجة، هى أن الشعب الأمريكى، يعيش «وهم» الحرية، عوضًا عن الحرية. مثله فى ذلك، مثل غالبية الشعوب.. يدعم النظام الأمريكى، وجوده أيضًا، من خلال ميكانيزم «التماثل».

إن تناول السائق الأسود غذاءه فى المطعم نفسه الذى يرتاده مخدومه الأبيض، لا يعنى اختفاء التفرقة العنصرية. وكذلك قدرة السكرتيرة، على شراء ملابسها، من المحل نفسه الذى تذهب إليه، صاحبة المحل، لا يعنى زوال التفرقة الطبقية. وأيضًا، فإن إمكانية المرأة أن تصبح مثل الرجل رئيسة للبلاد، لا يعنى نهاية الذكورية. لأن جسد المرأة ما زال يُستخدم فى العرى، والأفلام الجنسية، والإعلانات التى تروج السلع. وحقيقة أن المليارات تُنفق على الاكتشافات الطبية لا ينفى صفة العسكرية. لأن مليارات أكثر تُنفق على إنتاج وبيع الأسلحة. وكذلك، فإن علمانية الدستور لا تنفى أنه نظام دينى، لأنه يمول ويدعم الفتن الدينية، فى كل مكان.

لكنه يعنى، أن النظام الرأسمالى الأمريكى، العنصرى، الطبقى، الذكورى، والعسكرى، والدينى، يؤدى وظائفه بشكل أكثر سلاسة، وأكثر قدرة على حل التناقضات التى يفرزها. فقد تعلم، بالتجربة، أن يمنح «ضحاياه» بعض التنازلات، والميزات. إن «الذات» الأمريكية، المستعبدة من ماكينة الاستهلاك الشره، المسحوقة تحت عجلات الحاجات الوهمية. إنها «ذات» يتحدد وجودها، بما «تملك»، وبما «تشترى»، من «السوق». «ذات» ضائعة وسط طوفان السلع، التى تتجدد كل يوم، بموديلات، وماركات، أحدث. «ذات» تشعر بالضآلة، أمام ناطحات السحاب. ومع الديانة الجديدة، التى اسمها «التكنولوجيا».

إن غاية التكنولوجيا، ليست تكنولوجية، ولكن «سيكولوجية» فى المقام الأول، وهى تدعيم ضآلة الإنسان، واستبدال الرغبة الفطرية للتواصل مع الناس، بعلاقات باردة مع الأجهزة والأزرار. إن الشعب الأمريكى، مثل الكثير من الشعوب، وقع ضحية سياسات حكوماته المتعاقبة، والتى- رغم اختلافاتها- اتفقت على ضرورة سيادة العالم بأى «ثمن».

حينما نادى الفيلسوف الأمريكى، وليم جيمس ١٨٤٢- ١٩١٠، إلى تبنى الفلسفة العملية، أو «البراجماتية»، لم يتصور ما قد يلحق بأمريكا. لقد فهم المجتمع الأمريكى، البراجماتية، على أنها اللهاث وراء الربح الشره، النجاح المادى، واحتياجات السوق، وجنون الحرب، وفرض الحصار على الشعوب المستضعفة. بينما قصد هو، أن تتقاسم كل الشعوب، التعايش، القائم على التعاون، على المحبة، والعقل القوى، والروح الجريئة المغامرة. أو بلغته التى تكون فلسفته المختصرة «عِش ودع الآخرين يعيشون».

كتب وليم جيمس: «كلما ازددنا ضخامة ونجاحًا ازددنا وحشية، وخواء». وهذا ما لا تراه صديقتى «فريدة»، والكثيرون الذين يبهرهم «تمثال» الحرية، وليس «الحرية» الحقيقية الأصيلة. عندما عاد جورج برنارد شو ٢٦ يوليو ١٨٥٦- ٢ نوفمبر ١٩٥٠، من رحلته إلى أمريكا، سألوه إذا كان قد رأى تمثال الحرية، وما هو رأيه عن هذا التمثال. قال ساخرًا كعادته: «الناس عادة ما يقيمون التماثيل للأموات».