رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

قنطرة الذى كفر«2»


ما الذى جعل كل من قرأ رواية «قنطرة الذى كفر» للدكتور مصطفى مُشَرَّفة، سواء كان من القُراء العاديين، أو الروائيين الكبار، أو النُقاد المحترفين، التى صدرت طبعتها الأولى عام ١٩٦٥، يفتتن بها، شكلًا ومضمونًا، على النحو الذى أشرنا إليه فى المقال السابق، وبما يجعلها من الروايات النادرة التى تحقق هذا الإجماع، وخصوصًا أنها مكتوبة باللغة العامية الدارجة، أو العربية المصرية كما يُحب أن يصفها البعض؟



لعل فى إبداع الكاتب لأبطال هذه الرواية البديعة، ومحيطها العضوى: الحيز المكانى، والخلفية الزمنية، والأشخاص، ثم فى اختياره إنطاقهم بالعامية- وما كان لهم أن ينطقوا إلا بها- التى شكلت أداة تعبيرية فذّة، ما يُفسر هذا الأمر.



ففيما يخص المكان؛ لا يمكن- وأنت تُطالع صفحات هذه الرواية- تَصَوُّر أن تجرى وقائعها إلا فى بلادنا، وفى واحد من أفقر مواقعها، «رَبْع شيخ العطّارين»، وأكثر تجمعاته البسيطة ألفة وإنسانية ونُبلًا، على الرغم من أوضاع سكانه الاجتماعية البائسة.



أما بالنسبة للزمان، فخلفية الرواية تحوى شذرات ووقائع وأنباء، لا تطغى على وقائعها، وإنما تُفسر ظروف ومسارات أبطالها، تشير إلى أنها تحدث مواكبة لوقائع الثورة الوطنية الكبرى، ثورة ١٩١٩، التى احتفينا، شبه صامتين، بمئويتها أوائل هذا العام! وهى الثورة التى شاركت فيها جموع الشعب قاطبة، وحيث: «كانت المظاهرات قايمه فيها على رجِلْ، كان بيشترك فيها العيال والكُبار، تلامذة المدارس وطلبة المعاهد وعُمّال العنابر، وفئات كثيرة من الشعب زى عساكر الشوارع».

إن أصوات هتافات الثائرين، ولعلعة زخّات الرصاص فى الشوارع، ودماء الشهداء من بسطاء المصريين الذين ضحوا بحياتهم فداءً للوطن.. كلها تدوى أصداؤها الشفيفة فى خلفية الرواية، دون أن تطغى أو تشوش على بنيانها الموضوعى المتماسك.



غير أنك، كقارئ وأنت مأخوذ بفتنة الرواية، لا تقرأ مجرد حوار بالعامية، أو وصف لحدث يجرى يستخدم حروفها وألفاظها، وإنما تنغمر بكليتك فى تفاصيل دقيقة لوجود إنسانى حى، يموج بالرغبات والتشوفات والآمال والأطماع، لا تملك خلاله إلا أن تتعاطف مع سُكّان الرَبع، أبطال الرواية جميعًا، حتى فى لحظات سقوطهم وانكسارهم، لا لشىء، إلا لأنك ستُدرك من توالى أحداث الرواية، أنهم مجبورون بحكم الظروف الاجتماعية والاقتصادية الخانقة التى تحيط بهم إحاطة السوار بالمعصم، على أن يفعلوا ما فعلوا.



ستأسى لـلفتاة «سيِّدة»، تلك التى تخلّت عن «أحمد»، حبيبها فى لحظة ضعف، ويلفها الشعور بالذنب لأنها ما كانت تملك بضعة قروش شحيحة لكى تشترى له فرخة كانت فى ظنها كفيلة بإنقاذه من الموت بـ«الوبا»، أو لأنها اشمأزت من صورته ورائحة أنفاسه الكريهة وهو يحتضر، فباعت نفسها لمن يملك هاتيك النقود اللعينة، لكى تنقذ نفسها وأمها من وطأة الفقر والجوع، ثم انتحرت لشعورها الجارف بأنها خانت نفسها ومَن تحب.



ولن تكره «الشيخ قنطرة عبدالسلام» المتعلم البائس، الذى تدفعه انتهازيته، وطموحه للصعود الاجتماعى، والتعلُّق بأهداب الطبقة العليا، إلى الكُفر بالثورة، لأن: «لا المظاهرات ولا الوفد حينفعونى،.. والواحد ما يقدرش يدفع اللى عليه لـ(بُحلق) البقّال لا بالمظاهرات ولا بوفديته»، فيُدَبِّج قصيدةً عصماء يمدح فيها «عاصم باشا»، أحد أهم أعداء الثورة، ثم يُكمل سقوطه باستدراج «سيّدة» إلى «الباشا» فى موقف قُوادة مُشين، يُمَثِّلُ أعلى درجات الانحدار، ثم لا يلبث أن يُعذِّبه الشعور بالذنب فيعود إلى حضن الثورة فى أكثر صورها تطرفًا، نادمًا على ما اقترفه من جرائم، ثم ينتحر هو كذلك.



ويرى بعض النُقَّاد فى انتحار بطلى الرواية إشارة عميقة لمآلات ثورة عظيمة، جرى التآمر عليها، كما يحدث فى مسارات ثوراتنا، فى الأغلب الأعم.