رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

جونسون وترامب.. وجهان لعالم جديد


لم يكن فوز بوريس جونسون برئاسة حزب المحافظين، ورئاسة الوزراء فى بريطانيا حدثًا مفاجئًا للبريطانيين أنفسهم، لكن الأمر كان مختلفًا بالنسبة للكثيرين من أبناء منطقتنا، على اعتبار أننا آخر من يعلم من ناحية، كما أننا غارقون حتى الثمالة فى شئوننا المحلية من ناحية أخرى.

لذلك وجدنا «المستظرفين العرب»، وما أكثرهم فى عالمنا خاصة فى عصر السوشيال ميديا، يحاولون استغلال صور منشورة للسيد جونسون ويتهمونه بالجنون، أو أنه صورة أخرى لدونالد ترامب، ووصل الأمر بالبعض إلى عقد مقارنات هزلية، عمن سموهما مجنون ١٠ داوننج ستريت «مقر رئيس الوزراء البريطانى»، ومجنون البيت الأبيض.

والحقيقة أنه رغم ملامح الجنون والنزق البادية فى وجهيهما، إلا أن محاولة تصوير رجلين فازا بمقاليد الحكم فى بلديهما بأغلبية كاسحة نوع من السذاجة السياسية، فترامب فاز بـ٢٧٤ صوتًا من المجمع الانتخابى مقابل ٢١٥ صوتًا فقط، لمنافسته الشرسة هيلارى كلينتون.. وكذلك كان فوز بوريس جونسون فى انتخابات زعامة حزب المحافظين كاسحًا بكل معانى الكلمة، حيث حصل على ٩٢ ألف صوت، مقابل ٤٧ ألف صوت فقط لمنافسه جيرمى هانت.

إذن لقد اختير الاثنان بواسطة شعبيهما وفازا فوزين ساحقين، ورغم إيمانى الشديد بأن الديمقراطية على النمط الغربى لا تأتى دائمًا بالأصلح أو الأكفأ، ولا حتى بالأعقل، إلا أنها فى الحقيقة تعكس المزاج السائد لدى الشعب أو الناخبين، فالمزاج السائد لدى الأمريكيين هو الذى جاء بدونالد ترامب، رغم أنه «رجل من خارج المؤسسة» كما يقولون.

وهذه معناه أن الناخبين الأمريكيين ضاقوا ذرعًا بالسياسيين التقليديين، وهم لا يمانعون فى اختيار مقاول أو رجل أعمال يعقد لهم صفقات «جنونية» تضمن لهم مزيدًا من الرفاهية، وبعدها فلتذهب أخلاقيات السياسة التقليدية إلى الجحيم.

المتخصصون والأكاديميون يصفون ما حدث بأنه امتداد لحالة صعود اليمين الشعبوى السائدة فى أوروبا، التى تؤدى لانحياز العامة إلى سياسيين ذوى خطابات تتسم غالبًا باللهجة الشعبوية المعادية للمنظومات القائمة أو للنخب السائدة، وهو ما زاد من شعبية اليمينية المتطرفة مارى لوبان فى فرنسا، وجعلها أقرب إلى قصر الإليزيه من أى وقت مضى.

المزاج السائد لدى الناخب البريطانى جعله يتجه لاختيار بوريس جونسون، فقد أدرك البريطانيون أن السياسيين التقليديين لا يملكون رؤية استراتيجية واضحة، تجاه حليفهم الأول والأكبر فى البيت الأبيض، فهم يرفضون نزوع ترامب لإلغاء الاتفاق النووى، ويسيرون مع دول أوروبا فى احترام الاتفاق الذى وقعته دول «٥ + ١» مع طهران، ولكنهم فى الوقت نفسه يحاولون إرضاء واشنطن، فيتجهون لمواجهة مع إيران باحتجاز ناقلة إيرانية فى جبل طارق، بزعم أنها كانت تنقل البترول إلى سوريا، بالمخالفة للعقوبات الأمريكية، أى أنهم يساندون إيران بيد ويقفون ضدها باليد الأخرى! وعندما ردت إيران بقوة على التخبط البريطانى، فوجئ البريطانيون بأن واشنطن تطلب من بلادهم أن تحمى سفنها فى الخليج.

واستمرارًا لموجة التخبط السياسى، وجدنا أن بريطانيا التى تتجه بقوة للخروج من الاتحاد الأوروبى، تلجأ لأوروبا طلبًا لتكوين قوة بحرية مشتركة ضد التجاوزات الإيرانية فى الخليج.

فى ظل هذا التخبط والتردى كان من الطبيعى أن يتم اختيار سياسى صاحب صوت زاعق أو أكثر جموحًا من النخب السياسية التقليدية، سياسى بدأ حياته صحفيًا ثم أصبح عمدة لندن ووزيرًا للخارجية، قبل أن يصبح رئيسًا للوزراء.

سياسى بريطانى جرىء إلى درجة الجنون، كتب مقالًا فى صحيفة تليجراف عام ٢٠٠٦، قال فيه: «أريد هيلارى كلينتون أن تكون الرئيسة»، واصفًا إياها بأنها «تملك شعرًا أشقر، وشفتاها منتفختان، وعيناها زرقاوان، وكأنها ممرضة سادية فى مستشفى للأمراض العقلية».

وردًا على موقف أوباما ورغبته فى عدم خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبى، كتب مقالًا فى أبريل ٢٠١٦ وصف فيه أوباما بأنه «نصف كينى يحمل كراهية موروثة للبريطانيين».

ولم يتردد فى دخول مسابقة للشعر، أقامتها مجلة «ذى إسبكتاتور» احتجاجًا على قيام الرئيس التركى باعتقال أحد الصحفيين، فكتب قصيدة من خمسة أبيات، اتهم فيها أردوغان بأنه يمارس الجنس مع عنزة.

فى كل الأحوال أنت لا تستطيع أن تصف بوريس جونسون بالجنون، لأنه سياسى يعرف ما يقوله ويختار الطريقة التى يقول بها، فهو أول سياسى بريطانى- منذ عقود- يهاجم الإخوان بضراوة، ويتهم بريطانيا بإيوائهم رغم تأييدهم القاعدة وداعش، تمامًا كما تأوى الانقلابيين البحرينيين، وهو الوحيد الذى اتهم زعيم المعارضة العمالى «جيرمى كوربين» بأنه يؤيد السياسة الإيرانية، وأنه تقاضى رشاوى من قناة «برس» الإيرانية.. وهو الذى بنى خطته للصعود إلى رئاسة الوزراء تحت شعار «سنخرج من الاتحاد الأوروبى باتفاق أو من دون اتفاق». قل إنه عاقل يرتدى قناع الجنون لأن الناس ملت من السياسيين التقليديين، ومن معادلاتهم السياسية، تمامًا كما يفعل ترامب «الرئيس المقاول» أو الرئيس السمسار، الذى نجح فى جنى البلايين فى زمن قياسى.

هى موجة شديدة القوة تجتاح العديد من دول العالم، جاءت بزعماء يسمونهم «الشعبويين» إلى كراسى الحكم، وهناك آخرون قد يحققون ذلك، مثل مارى لوبان فى فرنسا وماتيو سالفينى فى إيطاليا وغيرهم.

إذا نجح هؤلاء الزعماء فى السيطرة على كراسى الحكم فى العديد من الدول الكبرى، فسنصبح أمام عالم جديد لا مكان فيه للتردد أو لمحاولات إمساك العصا من المنتصف، عالم لا أجد وصفًا له أدق من كلمات نزار قبانى فى قصيدته الشهيرة، التى يقول فيها: «لا توجد منطقة وسطى ما بين الجنة والنار».