رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أهل الشر


مَنْ منا لا يريد أن يكون خيّرًا، صالحًا؟، وكما هى الطبيعة الإنسانية بما فيها من أنانية وحسد وصلف تجعل من المستحيل القضاء على الشر، لكنها الطبيعة الكونية التى تحتم تجاور الخير والشر.
يكتسى الشر أشكالًا عديدة ويرتدى أقنعة متلونة، لكنه يظل فى كل الأحوال ثقيلًا، عطنًا مظلمًا، فوضويًا. كان المصريون القدماء يكرهون الفوضى ويعتبرونها انتكاسة فى الخلق، وعبروا عنها بكلمة واحدة هى «إسفت» التى تعنى الشرور والفساد، والفوضى، والظلم، وكان يشار إليها كأمر مكروه أو محرم. ويقابلها «الماعت» التى هى تجسيد للحق والعدل والنظام، وعلى أساس «الماعت» قامت الحضارة المصرية القديمة.
وفى أسطورة الخلق المصرية، فى البدء لم يكن هناك إلا بحر هائج، فى هذا البحر كانت توجد قوى الخير والشر. قوى الخير تحوى البذرة لكل ما هو حى، فى حين أن قوى الشر كانت تقطن الحية «أبوفيس». وعندما صعدت الآلهة وسادت الأرض ضعفت «الإسفت»، فالإسفت أو القوى والظلام كانت الأصل ولكن جاء الإله وطردها، ومن هنا بدأ الصراع الدائم بين الإله والإسفت أو الشر، فالنظام وفقًا للعقيدة المصرية يأتى مع الآلهة، لذلك وجب احترام ممثلى الآلهة على الأرض ولى الأمر وكهنته من رجال الدين. الأمر الذى يوضح الجذور العميقة لاحترام القوانين القادمة من السماء لدى الشعب المصرى وتقديسه لرجال الدين.
وكان على ملك مصر أن يرسى «الماعت» فى الأرض لتقاوم كل قوى الشر فى المجتمع الإنسانى لكى يستقيم ميزان الكون، ولم يكن الملك وحده هو المسئول عن تحقيق النظام بالقضاء على «الإسفت»، بل عاش المجتمع المصرى القديم فى كلٍ متكامل يتلخص فى «الماعت» أى النظام والتضامن والتكافل، فى حين تعبر «الإسفت» عن التفكك وعدم التآلف بل تعبر عن الظلم والجشع.
وقد أرجع الفكر المصرى أسباب الوهن والفوضى فى المجتمعات البشرية إلى ضعف «الماعت» واختلال المعايير والقيم السليمة فى المجتمع، مما يؤدى بطبيعة الحال إلى استقواء الشر وأتباعه وانتصارهم مؤقتًا على قوى الخير، لكن المصرى القديم كان لديه إيمان عميق بأن الشر لا يبقى فى الأرض طويلًا، وأن الخير دائمًا وأبدًا ينتصر، أما الفوضى والشر والظلام أو «الإسفت» فيحاربها الإله رع، فبمجرد أن تختفى الشمس كل مساء يركب الإله رع مركبًا مقدسًا يعبر به النيل تحت الأرض، ويعبر رع خلال تلك الرحلة ١٢ بوابة تمثل ١٢ ساعة هى عدد ساعات الليل، من الخامسة مساءً حتى الخامسة صباحًا فى العالم التحتى، وهو يقاوم قوى الفوضى والأخطار الممثلة فى الأفعى الكبيرة «أبوفيس»، والتى تعترض طريق مركبه الشمسى. ودائمًا ما ينتصر «رع» فتستطيع الشمس الظهور فى الصباح التالى فى أعالى السماء.
يعود «رع» إلى الظهور من جديد كل صباح بعد تلك الرحلة الليلية فى العالم التحتى، ويلقى بأشعته التى تمنح الحياة على البشر على سطح الأرض، هذا البعث لرع اعتبره المصرى القديم كبعث للإنسان، وعلامة على انتصار الإله رع على قوى الفوضى خلال رحلته الليلية.
ولذلك كان دائمًا الأمل فى التمسك بقيم «الماعت» ومحاربة «الإسفت» بكل الوسائل لكى يستمر شروق الشمس وفيضان النهر وخروج الخير من زرع الأرض وصيد البر والبحر، فقد كان على هذا المجتمع بفئاته المختلفة أن يعمل ليوم يلقى فيه ربه فيوفيه حسابه، وربه هذا هو الذى يحب «الماعت» ويكره «الإسفت»، وقد حرمها على بنى البشر وأمرهم بألا يقربوها، وفاعلو الإسفت مجرمون أفسدوا النظام سواء على المستوى الكونى أو السياسى، لذا يتم عقابهم وطردهم باستمرار.
ولا تقتصر رموز الشر عند المصريين القدماء على الحية أبوفيس، فهناك الإله ست رمز للشر فى أسطورة «أوزيريس»، حيث قتل أخاه واغتصب العرش من «حورس» ولكنه هزم فى النهاية. وقد صوره القدماء على هيئة إنسان برأس حيوان غريب يشبه رأس الكلب بأذن مفلطحة قائمة وذيل مستقيم ممتد إلى أعلى، وهناك المعبودة سخمت أو «القوية» فهى إلهة لها طبيعة وقوة اللبؤة، مثلت غالبًا على هيئة امرأة برأس لبؤة وكانت تشفى من الأمراض وكعين للشمس المدمرة تهاجم القوى الشريرة، ومن ألقابها عظيمة السحر.
فرموز الشر كثيرة، لكن الأمل دائمًا فى أن ينتصر الخير وتشرق الشمس.