الدعوة للثورة الثقافية تكتسب المزيد من الزخم
بقدر ما تتوالى النداءات من أجل الثورة الثقافية في مصر، وتمنح هذه الدعوة المزيد من الزخم بقدر ما تكشف عن شعور بأهمية تلك الثورة والحاجة الملحة "لثقافة تكفل ترسيخ قيم ثورتي 25 يناير و30 يونيو فى كل مناحى الحياة المصرية وتفاصيلها".
وفيما قال اأمد المسلماني المستشار الإعلامي لرئيس الجمهورية المؤقت أمس الأول: إن مصر "تحتاج إلى ثورة ثقافية وعودة المعرفة للمجتمع السياسي"، فإن ثمة كتابات توالت منذ ثورة الخامس والعشرين من يناير تؤكد بصورة أو أخرى على اهمية خلق فضاء ثقافي جديد بعد سنوات من السلطوية الرثة والفساد وغياب الديمقراطية الحقة.
ولعل ذلك كله يؤشر لأهمية الثورة الثقافية التى لابد وأن تتوغل فى كل مناحى الحياة المصرية وتغير أساليب التفكير نحو الأفضل" وضرورة العمل الجاد على زرع قيمة الشعور بثورتي 25 يناير و30 يونيو فى نفوس جميع المصريين بمختلف انتماءاتهم وشرائحهم العمرية والفكرية والتعليمية.
والثورة الثقافية هي فعل في الثقافة منحاز لقيم الثورة الشعبية بقدر ماهو مناهض لكل صور المظلومية واللاعقلانية والجهل والإسفاف، وهي أيضا تجسد مقولة "إن المثقف الحقيقي لايمكن أن يخون شعبه أو ينفصل عن الهم العام للمجتمع".
وتلك الثورة الثقافية تعني أيضًا "زمنًا فعليًا لا يعود فيها الشعب مجازًا على السنة بعض المثقفين بل يصبح واقعا فعليا يسعى المثقف الحق لتحفيزه ليخرج أفضل مافيه لبناء مجتمع الحق والخير والجمال"، كما أنها في الواقع هي القادرة "على تغيير جوهر النظام بما يلبي مطالب الثورة الشعبية".
والقضية ليست بعيدة عن تعريف الثورة على وجه العموم فيما قد يصل الأمر فى توثيق الثورات أو التاريخ الاحتجاجى فى الغرب إلى حد رصد "اللحظات الثورية"، كما فعل فرانك مكلين فى كتابه "الطريق الذى لم يطرق: كيف افلتت بريطانيا بأعجوبة من ثورة؟
فى هذا الكتاب، يواصل المؤلف فرانك مكلين مسيرته البحثية الطويلة مع الثورات والانتفاضات والهبات عبر التاريخ الانجليزى ويثير نقاشات هامة حول قضايا من قبيل الفارق بين الثورة الكاملة والحالة الثورية واللحظة الثورية فيما "يرصد بأدواته البحثية سبع لحظات ثورية فى تاريخ انجلترا" ويقوم بتشريحها.
فهناك من يرى أن بريطانيا التى عانت من حرب أهلية فى منتصف القرن السابع عشر لم تشهد أبدًا ثورة حقيقية كاملة على مدى تاريخها وإنما شهدت "حالات ثورية"، لم تسفر عن تغيير النظام بأكمله رأسيًا وأفقيًا.
وها هو فرانك مكلين يتناول فى كتابه الأخير هذا النوع من الأسئلة الكبيرة والفروق الدقيقة والبالغة الأهمية بين مصطلحات مثل الثورة والحالة الثورية والامكانية الثورية بل و"اللحظات الثورية التى كانت فيها بريطانيا على شفا تغيير مزلزل".
وبالطبع، كان لابد وأن يتطرق مكلين فى كتابه "للسلوك الثوري" ومراتبه ودرجاته وعلاقته بالثقافة بل والقدرة على الإبداع والخيال، فالخيال المبدع شرط من شروط الثورة الكاملة كما يقول فرانك مكلين ومن ثم فالثورة قضية ليست بالسهلة وخاصة عندما يتعلق الأمر بمعضلة تحويل انتفاضات أو هبات احتجاجية إلى ثورات وهى معضلة تتبدى فى بريطانيا حيث نجح شعبها فى إشعال انتفاضات دون نجاح فى تحويل هذه الانتفاضات إلى ثورات كاملة.
ولعل الثورة الثقافية بمقدورها القيام بأدوار كبيرة في المراحل الانتقالية للثورات حيث تسود احيانا في سياق "اكتشاف الحرية" بعض الأوهام التي تخلط بين الثورة والفوضى والتي لايمكن أن تتوافق مع أهداف وغايات الإرادة الحرة الجماعية للشعب عندما نزل الشوارع في ثورة لإسقاط النظام القديم.
فالثورة الثقافية كفيلة ببناء وعي وإدراك عام بأن ارتكاب الجرائم والخروج على القانون العام وترويع الآمنين هي افعال تصب في خدمة الثورة المضادة وتقدم ذرائع لأولئك الراغبين في اعادة انتاج النظام القديم الذي أسقطه الشعب.
وفي حكم وصف "بالسريع والرادع والتاريخي" قضت محكمة جنايات شبرا الخيمة أمس الأول "الاثنين" بالسجن عشر سنوات لأكثر من 50 شخصا ادينوا في اتهامات بقطع خط السكك الحديدية والطريق الزراعي أمام قرية "قلما" بمنطقة قليوب.
وأكدت المحكمة أن "هذه الجريمة يعاقب عليها القانون بأشد العقوبات وهذا الفعل يزيد من سطوة الخارجين عن القانون ومن مخاوف الشعب المصري و يجب علينا جميعا حماية السلمية والنظام العام في الدولة".
وفى ملاحظة دالة، كان الكاتب والقاص الدكتور محمد المخزنجى قد أشار إلى أن أفدح ما كشفت عنه شهور الفوضى "هو هذا الكم من المتعطلين وأشباه المتعطلين فى بلادنا" كمفرخة لظاهرة البلطجة "ومراهقى الشوارع"، معتبرا أن الحل يكمن فى ضرورة أن تكون هناك رؤية لأولويات التنمية وخاصة "المشاريع الكثيفة العمالة".
وثمة أوهام لدي البعض بأن مصر تعيش فى غيبة من القانون بفعل مرحلة انتقالية وهو أمر غير حقيقى"، فيما تغذي بعض القوى الكارهة لمصر هذه الأوهام لتعطيل عجلة الانتاج والحيلولة دون تقدم وتطور مصر والمصريين.
ومادامت الحرية هي الهدف والكرامة هي الغاية فإن الثورة الثقافية لايمكن أن تحيد عن هذا الطريق وهي تشكل أوجه الحياة في السياسة والاقتصاد والاجتماع وتسهم بقوة في الانتقال للديمقراطية والمشاركة الايجابية لرجل الشارع في السياسة والمجال العام وتعميق الرؤية المتعلقة بالمسؤولية أثناء المرحلة الانتقالية في مجتمعات قد تعاني مما يعرف "بأخلاقيات مجتمع الزحام" التي تهدر أحيانا قيم الحق والخير والجمال وتفضي كثرة السكان والفرص المحدودة "لتنافس قد يصل لحد الاقتتال".
ومنذ سنوات تحدث عالم الاجتماع الراحل سيد عويس عن "اخلاقيات مجتمع الزحام الذى اهم مايميزه كثرة الشتائم" أو القبح المسموع الملوث للبيئة وسط فوضى عمرانية وعشوائية البناء فى مدينة لاتحترم الانسان ولاتلبى احتياجاته.
وواقع الحال أن هذا القبح يجافى تراث الثقافة المصرية الأصيلة التى احترمت بشدة حقوق الطريق وحقوق الجيرة وخصوصية الانسان فيما تبدو ثقافة الجمال مطلوبة بالحاح للثورة الثقافية المنشودة على امتداد المجتمع بقصد التغيير نحو الأفضل وتجفيف منابع بيئة الفساد والقبح وأجواء الاستقطاب والمكايدة والأنانية واشاعة اليأس وعشوائية الأفكار ووهن الأفعال والقابلية للهزيمة.
فثمة خلل يشير لثورة تعانى من عدم تمكين ثقافتها القائمة على حرية التعبير واعلاء قيم الحق والخير والجمال وتنوع الرؤى والشفافية ودفع التنمية وزيادة النمو واحترام القانون فى مواجهة الثقافة المضادة الفاسدة حيث الأحادية والاقصاء والاستحواذ وتحويل مقدرات الوطن لغنيمة على حساب حق الشعب فى الخبز والحرية.
وثقافة القبح أو الثقافة المضادة للجمال حاصرت المصريين على مدى سنوات طويلة فى ظل النظام الاستبدادى وطالت شتى مناحى الحياة بما في ذلك معنى ثقافة العمران أو تذوق الجمال.
فالعمران مرتبط بالقيم الجميلة الصالحة وثقافة يصنعها اهتمام ووعى فئات محتلفة على رأسها مفكرين وأدباء وأصحاب رأى مع أهل علم واختصاص وهى ثقافة مرتبطة بانتماء لمناطق وصور حياة "والعمران فى شوارعه وميادينه وحدائقه وكباريه ونافوراته واعمال فنه بل ونسيجه وتكوينه العام هو تجسيد حى لتلك الثقافة".
ثمة مواجهة بين ثقافتين الأولى غنية بفكرها وأفكارها والثانية فقيرة ليس بامكاناتها المادية ولكن بفكرها وأفكارها أساسا. إنها المواجهة بين ثقافة الجمال وثقافة القبح التى تستبعد الابداع والخيال بل وتعاديهما برؤيتها المشوهة.
وفى اللحظات الكبرى والفاصلة فى حياة الشعوب عادة ماتظهر بشائر ثقافة جديدة للمرحلة الجديدة مثلما حدث فى ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية بابداعات مثقفين مثل الأديب الألمانى الراحل هاينرش بول والحاصل على جائزة نوبل فى الأدب عام 1972 والذى يوصف بأنه "كاتب هز ضمير أمته وأنقذ لغتها من الضياع".
وبقدر ما سعى هاينرش بول لهز ضمير الأمة الألمانية وأبرز عبثية الحرب ومحنة الاخلاق لم يكف عن ادانة مجتمع مابعد الحرب الذى شغل نفسه بالاستهلاك بدلا من محاسبة النفس وتجديدها بالأخلاق ليكون أحد أصوات الثورة الثقافية وهى بالضرورة ثورة اخلاقية.
والثورة الثقافية المنشودة تستهدف مواجهة مشكلة غياب المعنى الثقافى وهى معنية بأهمية تغيير الأفكار على مستوى المجتمع حتى لاتتكرر ازمات هى مشاكل ثقافية بالدرجة الأولى تؤكد ضرورة الثورة على الذات المعطوبة بفعل سنوات طويلة من الاستبداد والفساد.
لكل ثورة ثقافتها وحان الوقت لتكريس ثقافة ثورتي 25 يناير و30 يونيو عبر الثورة الثقافية وأن تكون السياسات الثقافية معبرة عن هاتين الثورتين الشعبيتين بقدر ماتؤسس لسياقات ثقافية - معرفية جديدة حاملة للفكر النهضوى برؤى نقدية منحازة للحق والخير والجمال.
والثورة الثقافية المنشودة لابد وأن تقف على معنى الابداع من حيث قدرة العقل على تكوين علاقات جديدة وانه لامستقبل واعد بلا ابداع. تلك حقيقة للثورة الثقافية أن ترسخها في العقل العام لمصر. مصر لم تزل تنجب والأفق فسيح!..تحمل حلما وخبزا وسلاما.