رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

مصر والدائرة الإسلامية «5»


اختطف البُعد الدولى الأهمية من البُعد الإسلامى فى السياسة الناصرية، لكنه لم يلغه تمامًا، إذ استمرت مصر تلعب دورًا هامًا على الساحة الإسلامية، حتى بالنسبة لمسلمى يوغوسلافيا. ففى عام ١٩٥٩ وصل إلى مصر حوالى ٣٥ من مسلمى يوغوسلافيا لأداء الحج، حيث حصلوا على تأشيرات السفر من السفارة السعودية فى القاهرة، ثم رحلوا إلى الحجاز بحرًا لأداء الحج، وعادوا بحرًا إلى مصر، ومن القاهرة استقلوا الطائرة إلى يوغوسلافيا. ويرجع ذلك إلى عدم وجود علاقات بين يوغوسلافيا والسعودية، وتدخل القاهرة كوسيط لأداء هؤلاء المسلمين اليوغوسلاف فريضة الحج.
على صعيد آخر، ارتبطت مسألة أخرى على جانب كبير من الحساسية بموقف مصر من الأقلية المسلمة فى يوغوسلافيا، ربما يدفع البعض إلى تحاشى دراستها أو الخوض فيها. ونقصد بذلك انعكاس ذلك على الأحوال الطائفية فى مصر بين المسلمين والأقباط. ففى تلك الآونة، ومع تصاعد التيار الدينى فى مصر متمثلًا فى جماعة الإخوان المسلمين، أججت مسألة الأقلية الإسلامية فى يوغوسلافيا المشاعر الإسلامية والإحساس بالأخوة الإسلامية العالمية فى مواجهة الغرب، سواء الغرب «الشيوعى الملحد» أو «الغرب الصليبى».
وإذا أخذنا جريدة الإخوان المسلمين مثالًا على ذلك، نجد أن الجريدة قد أبرزت كيف أدى اضطهاد المسلمين فى يوغوسلافيا إلى إعادة ميلاد الأخوة الإسلامية العالمية من جديد «إن المسلم فى أقصى المشرق ليحس بالألم لأخيه فى أواسط أوروبا. إن المسلمين لفى دور الانبعاث من جديد». كما ألقت الجريدة اللوم على الغرب الأوروبى الذى لم يهتم جديًا بمسألة مسلمى يوغوسلافيا. ورأت الجريدة أن الأوروبيين المتعصبين قد صموا آذانهم، وتعاونوا على خنق حركات المسلمين وتعمية أخبارهم. وعلت النبرة عندما استرجعت حوادث التاريخ مذكرة بأن أوضاع مسلمى يوغوسلافيا بصفة خاصة ومسلمى أوروبا بصفة عامة ما هى إلا «مأساة الأندلس من جديد».
وفى تلك الأثناء كانت هناك فى مصر حركة يتزعمها بعض كبار مثقفى الأقباط، ترى أن الأقباط يشكلون فى مصر أقلية مهضومة الحقوق والحريات، وتسعى هذه الحركة جاهدة للحصول على حقوق الأقليات المعترف بها دوليًا، وكان من أهم رموز هذه الحركة سلامة موسى والقمص سرجيوس، وقد أثار ذلك أحد أهم الرموز الشابة، آنذاك، لحركة الإخوان المسلمين، وهو الشيخ محمد الغزالى الذى شن حملة شديدة على سلامة موسى. حيث رأى الغزالى أن الأقباط هم أسعد الأقليات فى العالم «وأن المسلمين فى مصر كالعهد بهم فى كل مكان أعظم الناس سماحة، وأبعدهم عن مواطن التحرش والعدوان». وتمنى الغزالى أن تظفر الأقليات الإسلامية فى أوروبا بنفس الحقوق والحريات التى يتمتع بها الأقباط فى مصر، وعنّف الغزالى «سلامة موسى» مذكرًا إياه بأن الأقلية المسلمة فى يوغوسلافيا تذوب ومن قبلها أُبيدت الأقلية المسلمة فى الأندلس.
ولم تقف مسألة دخول مشكلة مسلمى يوغوسلافيا فى النزاع الطائفى فى مصر عند حد الصحافة ذات الطابع الدينى فقط، إذ سرعان ما دخل فى هذا الشأن بعض الصحف العلمانية. ففى عام ١٩٤٩ خصصت جريدة المصرى ست حلقات لمعالجة مسألة أوضاع مسلمى يوغوسلافيا. والحقيقة أن معالجة المصرى لهذه المسألة لم تختلف كثيرًا عن معالجة صحافة الإخوان لها، ربما دفعها إلى ذلك ازدياد تردى أحوال مسلمى يوغوسلافيا بالفعل، فضلًا عن تنافس الصحافة فى مصر على كسب الشعور الشعبى الإسلامى تجاه هذه المسألة. من هنا كان عنوان هذه السلسلة من المقالات «مأساة مسلمى البوسنة والهرسك.. متى يتقدم العالم الإسلامى لنجدتهم؟». ورأى المصرى أن الحركات المنادية بحقوق الإنسان فى العالم الغربى لا تولى أدنى قدر من الاهتمام لما يعانيه مسلمو يوغوسلافيا تحت الحكم الشيوعى، وأن هذا الأمر ما هو إلا مخطط دولى للعمل على القضاء على مسلمى البلقان. وأخذت المعالجة شكل إسلام ومسيحية «ألا نرى كيف يحاكم قسيس واحد فتقوم الدنيا وتقعد، وهناك مئات الآلاف من المسلمين الأبرياء يقتلون ويذبحون فلا يقوم صوت واحد للدفاع عنهم، ولو من أهل دينهم». وساعد على ذلك خفوت حدة الحملة الغربية المناهضة لتيتو وسياسة النظام الشيوعى فى يوغوسلافيا بعد الخلاف الشهير بين ستالين وتيتو، وبالتالى لم يعد الغرب يهتم كثيرًا بمسألة حقوق الأقليات فى يوغوسلافيا.
وأدت معالجة جريدة المصرى لمسألة مسلمى يوغوسلافيا، والحلقات الست التى خصصتها لهذا الأمر، والتركيز على الأخوة الإسلامية، إلى استثارة أحد أهم رجال الدين الأقباط وهو القمص سرجيوس، الذى شن حملة شديدة على جريدة المصرى وعلى معالجتها مسألة مسلمى البوسنة والهرسك. وأخذ القمص سرجيوس على المصرى مطالبتها بحقوق الأقلية المسلمة فى يوغوسلافيا، قبل أن تطالب بحقوق الأقلية القبطية فى مصر.
وهكذا دخلت مسألة موقف مصر من مسلمى يوغوسلافيا إلى منعطف جديد وشديد الخطورة والحساسية، ونقصد به المسألة الطائفية فى مصر، والحق أنه لا ينبغى التهويل من شأن مسألة مسلمى يوغوسلافيا ودورها فى المسألة الطائفية، فهناك أمور أخرى وراء المسألة الطائفية مثل تصاعد التيار الدينى مع ظهور حركة الإخوان المسلمين وارتباط نشأة فكرة العروبة فى مصر بالإسلام، فضلًا عن تيار قبطى يدعو إلى فكرة الأمة القبطية، من هنا يمكن تفهُم لماذا استثارت مسألة أوضاع مسلمى يوغوسلافيا الهاجس الطائفى فى مصر.