رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أكاذيب مُراسل وصدق فنان


لم تألف نفوسنا، كمصريين، الإسرائيليين يومًا كدولة جوار بيننا وبينها، كشعوب، ما لغيرها من الدول، من حسن جوار واحترام، لأنهم شعب جاء من أصقاع العالم، واقتنص قطعة من أرضنا العربية، وأقام عليها دولة، اعتمدت سفك الدماء واحتلال مزيد من الأرض، وتشريد أهلها، وإنكار حقهم فى الحياة، تدعمهم دول تتشدق بالعدل والحرية، وحق الشعوب فى تقرير مصيرها، بل ساعدوها على الاعتراف بما سرقت أرضًا مكتسبة لها، لا يهم فى ذلك ما تعارف عليه العالم من مواثيق ومعاهدات، وما تعاهدوا عليه من حقوق الإنسان فى العيش الكريم الآمن فوق أرضه.
يبدو أن المشاعر متبادلة بيننا وبين كل من هو إسرائيلى، وإن أبدى بعضهم عكس ما يُبطن من مشاعر الكراهية، والاطمئنان إلى العيش فى وجود دولة بحجم مصر، بدليل ما جاء عليه مقال مراسل صحيفة هآرتس بالقاهرة، تسفى بارئيل، الذى كتب لصحيفته، تقريرًا صحفيًا مشبوهًا عن فيلم «الممر»، الذى أنتجته السينما المصرية، ويتناول الفترة التى تلت حرب الأيام الستة عام ١٩٦٧ وما تلتها من حرب الاستنزاف، التى استمرت حتى عام ١٩٧٠، ويتحدى وأتساءل: ما الذى يمنعنا عن إنتاج فيلم، طالما انتظرنا سنوات طوالًا، منذ الانتصار العظيم فى حرب أكتوبر ١٩٧٣، لإنتاج مثله، لتعرف الأجيال الحالية، التى لم تشهد الحرب، ولم تقرأ أو تسمع عنها بالقدر التى يوفيها حقها، وفترة ما قبل الحرب، خلال سنوات الاستنزاف، فى أعقاب نكسة ٦٧، وحتى الانتصار العظيم لقواتنا المسلحة، فى معركة، ظلت حديث العالم طويلًا، وتناولتها الأكاديميات العسكرية العالمية بالدرس والتمحيص. نفعل ذلك، فيستهجنا مراسل هآرتس، ويقول «أساس الاستغراب لا يرتكز على قرار الشركة المنتجة وقرار عرفة إخراج فيلم كهذا، بل فى توقيت إنتاجه»، متناسيًا كل ما أنتجته سينما بلاده عن حرب ٦٧ وما تلاها، وكان آخرها فيلم «الملاك»، عن الراحل أشرف مروان، الذى وصمه الإسرائيليون فى فيلمهم بكل نقيصة، وهو، أى فيلم الملاك، وغيره من الأعمال تستند إلى أكاذيب وضلالات، هى أساس مخاطبة دولة الاحتلال لشعبها ولشعوب العالم.
بل إن أسطورة «السوبر مان» الأمريكى، لدولة التحالف مع بلاده، صنعتها أفلام هوليوود، عبر أعمال استندت إلى بعض حقائق، وكثير من الأكاذيب، لصناعة صورة إيجابية عن أمريكا دولة العدل وحقوق الإنسان، ولم ينتبه «تسفى» إلى أن مجموعة الأفلام التى صنعتها هوليوود، بدعم من الاستخبارات الأمريكية، عن زيف ما ذهبت به واشنطن إلى بغداد، وأسقطت به دولة العراق، تحت دعاوى الديمقراطية، وضرورة خلاص الشعوب من حكامها، الذين يحكمونها بالحديد والنار، إلى أن فضحتهم اعترافات من كانوا وراء المبررات الكاذبة لغزو العراق واحتلال أراضيها، وإذلال شعبها، وتركهم نهبًا لكل طامع حتى الآن.
أدرك أن الفيلم جاء كاشفًا لما أراد الإسرائيليون إخفاءه عن أجيالهم الحالية، «فيلم الممر عوّر وضايق الإسرائيليين، وكان دمه تقيل عليهم»، كما قال عمرو أديب فى برنامجه التليفزيونى على فضائية MBC: «إحنا بنعمل الفيلم عشان نحكى التاريخ لأولادنا.. الفن عندما يكون صادقًا يكون سلاحًا».. بل إن تسفى يقع فى تضاد بين أفكاره، فيما كتبه من تقرير عن الفيلم لصحيفته، فهو يتهم صُناع الفيلم بأنهم من تابعى النظام فى مصر، العاملين بموجب توجيهاته، «شريف عرفة يعتبر دائمًا خادمًا للنظام المصرى، وتم وضعه مع آخرين كثيرين ضمن المجموعة التى تسمى فنانى النظام، وتم تبنيهم من قبل وزارة الثقافة، وحظوا ليس فقط بالتقدير، بل بميزانيات سخية».
ولهذا فإن الممر لا يصور فقط الجنود المصريين كشباب مستقيمين يحبون الوطن، ومستعدين للتضحية بحياتهم من أجله، بل يذكّر الشعب المصرى بالعدو الحقيقى، إسرائيل، كما عرض الضباط والجنود الإسرائيليين كساديين، وأيديهم تطاوعهم فى الضغط على الزناد، ويأتى بعد ذلك للقول بأن السينما المصرية، وحتى التى تجرأت على انتقاد النظام وعرض إخفاقاته فى الحروب، صورت دائمًا الجيش الإسرائيلى وإسرائيل كوحوش يحبون الحروب ومتعطشين للأراضى، إذن هى عقيدة يقينية فى كل مصرى، متفقًا مع النظام عاملًا بتوجيهاته، أو منتقدًا له فيما يخص مصلحة البلاد والعباد، لأن هؤلاء جميعًا، كما تقول يا مراسل هآرتس بنفسك، «فى كل ما يتعلق بإسرائيل، فإن خط الدفاع الذى وضعه المثقفون والفنانون والصحفيون المصريون لا يعترف بالتغيرات السياسية.. فحماة الأسوار هؤلاء، سيواصلون الدفاع عن بلادهم مصر، وعن مكانتهم كرأس لسهم النضال من أجل تحرير فلسطين».
وفى إناء من العسل، يضع تسفى بعضًا من السم، محرضًا المصريين على قيادته السياسية، بأباطيل، ليس عليها من دليل، فى إفك بيّن، وبلغة تعكس الدهشة والاستغراب من إنتاج هذا الفيلم، قال: «بعد أن كشف السيسى عن التعاون العسكرى بين مصر وإسرائيل، وبصورة وثيقة فى الحرب ضد الإرهاب، وعلى خلفية التقارير بأن إسرائيل تنفذ هجمات فى الأراضى المصرية بمصادقة مصر!، كان يمكن التوقع أن النغمة السينمائية تجاه إسرائيل التى يمليها النظام ستحظى بتخفيف معين!».
فكيف نصدق إذن القول بأن السينما المصرية ومسلسلاتها التليفزيونية موجهة، «التوق للمعرفة وحب الوطن.. هى المواضيع الرئيسية التى تحظى بمعالجة سينمائية وتليفزيونية»، بل إن تسفى، الذى يعيش فوق التراب المصرى، مراسلًا لصحيفته ويعرف بعلم اليقين، ملامح برنامج الإصلاح الاقتصادى فى مصر، ومشروعاتها الطموحة التى تستشرف بها مستقبلًا واعدًا لشعبها الذى يتحمل بصبر وجلد، تبعات هذا الإصلاح، يقينًا بقيادته وثقة فى إخلاص رئيسه، من أجل تحقيق هذا المستقبل، فإنه يذهب بعيدًا فى طريق المزيد من التحريض «لم يعد بالإمكان إيجاد أفلام تعالج، بصورة ثاقبة ونقدية، ظواهر اجتماعية قاسية مثل؛ الفقر، مستوى التعليم المنخفض، مكانة المرأة، قيم العائلة».. هل بلغ بك العمى حدًا لم تر معه كم الأعمال التى تتعرض لكل مظاهر الحياة فى مصر، بالنقد الواجب لإصلاح المعوج فيها، عملًا من الحكومة بمبدأ «رحم الله امرأ أهدى إلىّ عيوبى».. حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين.