رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

سر جمال «4»

نجيب محفوظ يكتب: معنى الخلود معنى الخلود

جريدة الدستور

ما زالت وقائع يوم وفاة عبدالناصر ماثلة فى ذهنى وكأنها جرت بالأمس القريب.
فى ذلك اليوم كنت عائدًا من مدينة الإسكندرية مع أسرتى، وفور انتهائنا من تناول طعام العشاء جلست لمشاهدة التليفزيون، وقبل أن أدخل الفراش لحظت أن القناة الأولى فى التليفزيون تبث تلاوة قرآنية فى غير موعدها فأدرت المؤشر إلى القناة الثانية فوجدت أيضًا تلاوة قرآنية، وبدأ الشك يتسلل إلى نفسى ووردت إلى ذهنى خواطر كثيرة.

قلت لزوجتى إننى أشعر بأن تلاوة القرآن المتكررة فى التليفزيون وفى هذا الوقت من اليوم وراءها شىء ما، ولما استوضحتنى زوجتى قلت لها إننى أظن أن الفلسطينيين قتلوا الملك حسين، كان ظنى مبنيًا على أساس الموقف المتفجر بين الملك حسين والفلسطينيين بعد مذابح سبتمبر أو ما سُمى «أيلول الأسود»، ولما طالت التلاوة القرآنية اتصلت هاتفيًا بجريدة «الأهرام» عسى أن أجد ما يُزودنى بمعلومات عما يجرى، ولكن باءت محاولتى بالفشل، ويبدو أنه كلما سألتهم تهربوا منى فلم أجد بدًا من الجلوس من جديد أمام شاشة التليفزيون لعلهم يُفسرون للناس سبب انقطاع البرامج وبث القرآن فقط.

فى تلك الأيام كان يعمل لدينا خادم فى البيت، كنا أرسلناه فى شراء بعض الحاجيات، فما إن عاد حتى قال لى «إن الريس مات» وإنه سمعهم فى الخارج يقولون ذلك. أصابنى الذهول والاستنكار وأسكت الخادم وطلبت منه عدم تكرار مثل هذا الكلام أمام أى شخص.

وفى الحقيقة لقد هزتنى كلمة الخادم وشعرت بالخوف من أن يكون صادقًا فيما قاله، كما شعرت بالخوف على أسرتى خشية أن يكون كاذبًا، فيسبب لنا متاعب نحن فى غنى عنها، وظللت على هذه الحالة من الحيرة والقلق أمام جهاز التليفزيون حتى انتهت تلاوة القرآن وتم الإعلان عن أن نائب الرئيس أنور السادات سوف يلقى بيانا إلى الأمة، ولما أطلَّ السادات بوجهه على شاشة التليفزيون قلت لزوجتى جمال عبدالناصر مات.

كان وجه السادات عندما ألقى البيان مرهقًا ومكتئبًا وكانت عيناه شاردتين، وفى تلك اللحظة بالذات خطر لى شعور غريب جدًا ليست له علاقة بما نحن فيه، فقد أفقت على حقيقة ربما غابت عن ذهنى، وهى أن الناس جميعًا ستموت. كان عبدالناصر يُعطينى شعورًا خرافيًا بالخلود، فلم أتصور أن يأتى يوم يموت فيه كما يموت البشر.

أما وقد رحل وفارق الدنيا فمن المؤكد أننا جميعًا راحلون، وأفقت على صوت زوجتى وهى تقول «يللا خلينا نتنفس»، وأحزننى قولها مع خلوه من الشماتة فرغم أخطاء عبدالناصر الكبيرة ورغم أن هناك قدرًا من السخط الذى كان يعتمل داخلنا ضده إلا أن رحيله كان مؤثرًا للغاية، لأن الرجل أعطانا من الآمال والأحلام ما لم نشعر به من قبل، وسيطر على تفكيرى نفس السؤال الذى راودنى يوم تنحى عبدالناصر، وهو من فى مصر يمكن أن يخلف عبدالناصر؟

وفى صباح اليوم التالى اتصل بى الأستاذ محمد حسنين هيكل بنفسه وطلب منى أن أكتب كلمة رثاء فى عبدالناصر، وفى تلك الفترة كانت كتاباتى فى جريدة «الأهرام» لا تزيد على كتاباتى الأدبية، ولكننى كتبت ما طلبه هيكل وذهبت إلى «الأهرام» وسلمت الكلمة التى لم تكن رثاء خالصًا بقدر ما كانت تتضمن بعض تلميحات فى نقد عبدالناصر، كانت حالة التأثر عامة وكان الحزن عظيمًا على الرجل بدليل الإقبال الكبير على التبرع للمشروع الذى اقترحه توفيق الحكيم بإقامة تمثال لعبدالناصر وكنت أنا من أوائل المتبرعين.

كنت فى بيتى عندما أعلن عن تولى أنور السادات مسئولية الحكم بعد عبدالناصر وضربت كفًا بكف وأنا غير مصدق وقلت لزوجتى: هذا الأضحوكة هل سيصبح رئيسًا لمصر؟!

ورغم أن السادات كان هو الوحيد من بين أعضاء مجلس قيادة الثورة الذى كنا نعرفه نتيجة اشتراكه فى النشاط السياسى قبل الثورة ولدوره فى قضية مقتل أمين عثمان إلا أن منزلته فى نفوسنا متدهورة وكنا نعتبر السادات فى آخر صف قيادات ثورة يوليو، خاصة أن دوره ظل لسنوات طويلة شرفيًا مقارنة بعبدالناصر وعبدالحكيم عامر وزكريا محيى الدين والبغدادى وكمال الدين حسين، وبمعنى أوضح كان السادات العضو المركون أو الاحتياطى، كما لم يتولَّ منصبًا مؤثرًا طيلة عصر عبدالناصر، ولذلك لم أتصور أبدًا أن يكون هو خليفة عبدالناصر، ولما حدث ذلك بالفعل اعتبرت المسألة غاية فى السخرية والسخف.

لم يكن هناك وجه للمقارنة بين عبدالناصر والسادات لأن الفروق هائلة، وذلك على عكس الوضع بالنسبة لسعد زغلول وخليفته مصطفى النحاس، فعندما تولى النحاس رئاسة الوفد بعد سعد زغلول كان الناس يعرفون قدر النحاس ودوره البارز فى تاريخ حزب الوفد.. صحيح أنهم يعشقون سعد زغلول ويرفعونه فوق الجميع إلا أنهم فى الوقت نفسه يدركون أن النحاس هو الرجل الثانى المؤهل للقيادة. لذلك فمنذ اليوم الأول لخلافة النحاس قوبل الرجل باحترام شديد ورفعته الجماهير على الأعناق، أما بالنسبة للسادات فقد اختلف الوضع. فقد كان هناك طابور طويل يسبق السادات فى الأحقية والجدارة بخلافة عبدالناصر، ومن حسن حظ السادات أن أفراد هذا الطابور يشعرون فى أنفسهم بقوة الزعامة فكان فى ذهن البغدادى أو كمال الدين حسين أو زكريا محيى الدين أو جمال سالم أنهم لا يقلون عن عبدالناصر فى شىء وأنه لا يتميز عنهم بشىء، أما السادات فقد كان من قوة الدهاء بما جعله ينطوى تحت جناح عبدالناصر، ولذلك كان عبدالناصر يشعر بالارتياح تجاه السادات وكثيرًا ما كان يذهب لزيارته فى منزله، وعندما حل العام ١٩٧٠ كان عبدالناصر تخلص نهائيًا من غالبية أعضاء مجلس قيادة الثورة الأقوياء، وكان آخرهم زكريا محيى الدين فأصبح الطريق مفتوحًا أمام السادات للقفز على السلطة.

ظلت فكرتى عن السادات سيئة واقتناعى بأنه غير كفء لتولى المسئولية بعد عبدالناصر ثابتًا، حتى اكتشفت مدى دهائه وحنكته فى أحداث ١٥ مايو ١٩٧١، حيث استطاع أن يتخلص من عمالقة أشداء كان يراهم حجر عثرة فى طريقه ولأول مرة أشعر فى حديثه وبيانه الذى ألقاه آنذاك بأنه أثر فى نفسى بعدما كان يثير فينا من قبل السخرية والاستهانة به.

قد كانت أخطاء عبدالناصر كثيرة ولكنَّ خطأه الأكبر الذى أثار غضبى عليه هو أنه أضاع فرصة تاريخية نادرة لينقل مصر نقلة حضارية هائلة أشبه بما حدث فى اليابان بعد الحرب العالمية الثانية. كانت كل الظروف مهيأة له وكنا نأمل منه الكثير الذى نتمنى تحقيقه على يديه ولكنه أضاع الفرصة بمعاركه الكثيرة التى خاضها.

وفى التاريخ الإنسانى نجد أن لكل بطل تراجيدى «مأساوى» نقطة ضعف تكون سببًا فى القضاء عليه، وكانت نقطة ضعف عبدالناصر فى عدم إيمانه بالديمقراطية والحوار واستئثاره بالسلطة وضيق صدره بالرأى الآخر، ولو أقام عبدالناصر أى نظام ديمقراطى حتى ولو كان مجلس شورى مقننًا، بمعنى أن يؤخذ فيه برأى أغلبية الأعضاء ولا يكون مجرد مجلس استشارى، يستطيع حله عندما يريد. لو أقام عبدالناصر هذا النظام «شبه الديمقراطى» لتغير تاريخ مصر إلى الأفضل ولتجنبنا الدخول فى ذلك الصدام مع قوى الاستعمار ولصفينا ما بيننا وبين إسرائيل ولما دخلنا حربى ١٩٥٦ و١٩٦٧ ولا كانت هناك حاجة لحرب ٧٣، وكنا سرنا فى مشروع «القومية العربية» بخطوات عاقلة وحكيمة، وكان من المؤكد أنها ستأتى بنتائج أفضل.

كانت مصر فى تلك الأيام التى سبقت ثورة يوليو ١٩٥٢ أشبه بالسفينة التى تحيط بها العواصف من كل جانب، وتحتاج إلى ربان حكيم ماهر يستطيع أن يتفادى تلك العواصف ويصل بها إلى الشاطئ، وللأسف لم تتوافر فى الربان الحكمة التى تساعده على مواجهة العواصف، أضف إلى ذلك حالة السلبية التى كان عليها الشعب المصرى فى تلك الفترة، خاصة أنه كان خارجًا من تجربة ديمقراطية غير مكتملة انتهت بالتمزق والمشاحنات والفوضى بين الأحزان، وهى ديمقراطية وقف ضدها الإنجليز والملك، وبمرور الزمن أصبح حزب الوفد أضعف من أن يفرض رأيه فى مواجهة الاثنين الإنجليز والملك معًا وتكونت بمساعدة الملك والإنجليز أحزاب انضمت إلى أعداء الشعب، وكان الملك والإنجليز وأحزاب الأقلية جميعًا يعتقدون أن الشعب المصرى لا يصلح معه الأسلوب الديمقراطى، ونتيجة لهذا الانقسام دخلت الأحزاب والقوى السياسية فى صراعات عنيفة أدت إلى قيام الثورة.

والحقيقة أن مبادئ ثورة يوليو وأهدافها إنسانية وعظيمة، وطالما حلم بها وتمنَّاها كل المصريين، ولكن ما حدث هو أن الثوار لم يكونوا على مستوى الثورة ومبادئها.

وكانت المسألة أشبه بطبيب امتياز «حديث التخرج» أسندت إليه عملية جراحية خطيرة لمريض أشرف على الموت، فكان من الطبيعى أن يؤدى جهل الطبيب إلى وفاة المريض، وقد يقال إن موقع مصر الجغرافى يجعلها مطمعًا للقوى العالمية، ولكن هذه ليست مشكلة عسيرة تستعصى على الحل لأن إنتاج سياسة متوازنة سيحقق مصالحنا ويقيم نوعًا من التوازن بين هذه المصالح ومصالح الآخرين.

كنا فى جلساتنا بكازينو قصر النيل ندير حوارات طويلة حول مسألة علاقات مصر بالعالم من حولها، وأذكر تشبيهًا قلته فى هذه الجلسات، وهو أن علاقتنا بالعالم الخارجى أشبه بعلاقة أحد الكواكب بالمجموعة الشمسية، فعلى الكوكب أن يسير فى فلك خاص به دون أن يصطدم بالكواكب الأخرى التى تدور من حوله، كما أن على هذا الكوكب أن يدور حول الشمس بحساب، فلا يقترب أكثر من اللازم حتى لا يحترق أو يبتعد فيموت سكانه من البرد.

من أخطاء عبدالناصر التى لا تغتفر إخفاؤه المعلومات عن الشعب لدرجة أننا لم نعرف شيئًا عن مرضه إلا بعد وفاته، وفوجئنا بأنه كان مصابًا بمرض خطير فى قلبه، وأنه كان ممنوعًا من العمل فترة غير قصيرة، ومصر تحكمها «لجنة»، وأن الروس يعلمون بحقيقة مرضه، حيث كانوا يعالجونه.

أما الشعب المصرى فلا يعرف شيئًا عن ذلك، وأعتقد أن الأمريكان كانوا يعرفون بمرض عبدالناصر ويعدون العدة لخلافته مثلما كان الإنجليز، لديهم تقرير شامل عن مرض سعد زغلول واستعدوا لما بعد وفاته، وقيل إن الغرب كان يعد السادات منذ أوائل الستينيات ليحكم مصر، وقيل إنه كان يتقاضى أموالًا من الولايات المتحدة الأمريكية عن طريق رجال المخابرات كمال أدهم، كما قيل إن تقارير السادات المبالغ فيها هى التى جعلت عبدالناصر يندفع إلى حرب اليمن. ذكر محمد حسنين هيكل هذا الأمر فى أحد كتبه وعنوانه فيما أذكر «لمصر لا لعبدالناصر»، والحقيقة أن هذا الكلام لم تثبت صحته ولا يمكن أخذه على عواهنه، خاصة أن هيكل كان بينه وبين السادات ما صنع الحداد.

جزء من كتاب «صفحات من مذكرات نجيب محفوظ» لرجاء النقاش.