رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

سر جمال «3»

محمود السعدنى يكتب: ابن مصر.. والبوسطجى

محمود السعدنى
محمود السعدنى

لقد مضى على ثورة يوليو ٤٢ عامًا طويلة- كتب هذا المقال عام ١٩٩٤- والمصرى الذى بلغ الثلاثين من عمره الآن لا يعرف شيئًا عن الثورة إلا من خلال ما يطالعه من كتابات غير صحيحة يكتب بعضها أعداء مست الثورة مصالحهم، ويكتب بعضها أرزقية كانوا من أشد أنصار الثورة عندما كانت فى السلطة، ثم انقلبوا عليها عندما أصبحت لا تملك للناس نفعًا ولا ضرًا.

والحق أن هؤلاء الذين احترفوا الهجوم على ثورة يوليو لا وزن لهم، وإن كانت كلماتهم قد أدت إلى انحرافات سياسية خطيرة فى صفوف الشباب، خصوصًا هؤلاء الذين لم يعاصروا إنجازات الثورة ولم يعرفوا واقع مصر قبل عام ١٩٥٢، وكان ارتداء الحذاء وقفًا على طبقة، وعندما كانت مناطق بأسرها داخل القاهرة مقفولة فى وجه المصريين، لا يرتادها إلا الأجانب، كان حى الزمالك قطعة من لندن، وحى جاردن سيتى كان قطعة من أنقرة، ونهار أبوه أزرق أى مصرى من لابسى الجلابيب تسول له نفسه دخول جاردن سيتى أو الزمالك، اللهم إذا كان يعمل خادمًا عند أحد من السادة السكان.

وأذكر أن صديقًا لنا كان يسكن الزمالك، ولم يكن من الصياع أو أبناء السبيل، ولكنه كان من أصحاب الطين، وسولت له نفسه أن يقيم حفلًا صغيرًا لمناسبة من المناسبات، ودعا إلى الحفل بعض الأصدقاء وكان العبد لله من بينهم، وفوجئنا بالشرطة تهاجم المنزل وتقود الجميع إلى قسم الشرطة. ليه؟ لأن خواجة إنجليزى كان يسكن فى الشقة المجاورة اتصل بالشرطة وطلب منها التدخل، لأن إزعاج الجيران يمنعه من النوم، وكان بين الحاضرين ضابط شرطة كبير يعمل فى الفيوم وبرتبة عميد، وكان يرتدى الملابس المدنية، واحتج بشدة على هذه المعاملة، فما كان من رجال الشرطة إلا الاعتداء عليه بقسوة إلى الدرجة التى احتاج فيها إلى علاج لمدة أسبوعين، والغريب أنهم أحالوه إلى الاستيداع لأنه اشترك مع آخرين فى إزعاج الخواجة الإنجليزى الذى يجب توفير الراحة له لكى يتمكن سيادته من النوم العميق! وأخطر من ذلك أن كل المصالح كانت فى يد الأجانب، قناة السويس التى يديرها المصرى عادل عزت الآن كان يديرها خواجة فرنساوى، إذا أراد محافظ القناة أو محافظ السويس مقابلته انتظر أسبوعًا حتى يأذن له بالمقابلة التى كانت تتم دائمًا فى مكتب المدير، وعندما سعى إليه بعض أهل الخير من أجل إلحاق كابتن النادى المصرى وكابتن مصر السيد الضيظوى بوظيفة فى الشركة تعينه على مواجهة الحياة، تعطف سعادته وتكرم وأمر بإلحاقه بوظيفة كناس! ولم تكن قناة السويس وحدها هى التى يملكها الأجانب، كانت أغلب المصالح فى أيديهم، حتى مخابز العيش الأفرنجى ومحلات الأقمشة الشعبية وجميع المطاعم والخمارات، بالإضافة طبعًا إلى شركات إنتاج السجائر والمعسل والمدغة والفنادق حتى التى توجد فى الأقاليم. وكان الإنجليز والفرنسيون يملكون المصالح الكبرى، أما الدكاكين والمطاعم والفنادق فكان يملكها طلاينة ويونانيون، أما الدخان والمعسل فكان احتكارًا للأرمن، ماتوسيان وملكونيان وچان ماروشيان وأمثالهم، أما الوظائف الوسيطة فى الشركات، أو همزة الوصل بين الإدارة العليا والمستخدمين فكانت من نصيب أهل مالطا، مفتش الترام مثلًا كان من مالطا، وكونستبلات الشرطة كان أغلبهم من مالطا، أما رئيس الكونستبلات فكان إنجليزيًا، وكان قائد القوات البريطانية فى مصر يصنع ما يحلو له، وعندما رفض الملك فاروق تنفيذ رغبته فى تغيير الوزارة، حاصر القصر الملكى ووجه إنذارًا للملك، بأنه سيجبره على التنازل عن العرش ومغادرة البلاد إذا لم يبادر بتنفيذ رغبة القائد البريطانى، وحدد له موعدًا أقصاه السادسة مساء، واضطر الملك فاروق إلى الخضوع للقائد البريطانى!

أما منطقة القناة فكانت جمهورية مستقلة داخل مصر يحكمها الجنرال البريطانى.

كانوا يغلقون السكك فلا يسلكها مصرى حتى إشعار آخر، وكانت موانئ القناة ومطاراتها لا تخضع لأى إشراف مصرى ومنها تسربت ثروات كثيرة وشخصيات عديدة، ومنها دخلت شحنات كبيرة من الأسلحة والمخدرات، وكانت دار السفارة البريطانية فى القاهرة كعبة رجال الأحزاب المصرية، خصوصًا أحزاب الأقلية، وكان زعماء الأقلية فى مصر يتلقون الوحى من سعادة السفير البريطانى وينفذون تعليماته.

وكانت السفارة البريطانية مركز قوة، من ترضى عنه فله فى الدنيا حسنة، ومن تغضب عليه فمصيره إلى النسيان والضياع.

ثم جاءت ثورة يوليو، وفجأة.. وبضربة واحدة، أمم عبدالناصر قناة السويس، ثم ثبت أمام العدوان الثلاثى، ثم أمم جميع المصالح الأجنبية من شركات وبنوك، وأيقن الأجانب أن مصر لم تعد لهم، فباعوا دكاكينهم الصغيرة ومخابزهم ومطاعمهم ورحلوا خارج البلاد.

هناك مسألة أخرى فى الدرجة الأولى من الأهمية، أغلب رأس المال الذى أممته ثورة يوليو كان يملكه اليهود الأجانب، فكل البنوك كانت فى يد اليهود، وأغلب الشركات كانت فى يد اليهود، والاقتصاد المصرى كله كان تحت سيطرة اليهود، صحيح أن هناك بعض المصالح المصرية التى اضطرت الثورة إلى تأميمها، ولكن كل أموال المصريين المؤممة لم تكن تمثل أكثر من خمسة فى المائة من الأموال المصادرة، بعض أصحاب هذه الأموال مازالوا حتى اليوم يلطمون الخدود ويشقون الجيوب ويتهمون عبدالناصر بأنه كان يكره الأثرياء ويحقد عليهم لأنه كان ابن بوسطجى.

وهم لا يدركون- لسذاجتهم- أنهم يشتمون عبدالناصر بما يشرفه ويرفع من قدره عند أغلبية الشعب المصرى، هذا الفتى الصعيدى ابن البوسطجى، أول مصرى يحكم مصر بعد عدة ألوف من السنين، ولولا عبدالناصر وثورة يوليو ما كنا قد شاهدنا مصريًا يحكم مصر حتى الآن!

وصحيح أن أجهزة عبدالناصر تجاوزت فى بعض الأحيان، وصحيح أيضا أن هذه التجاوزات ارتكبها بعض الذين اشتركوا فى ثورة يوليو، وبعض الأرزقية الذين كانوا يبحثون لأنفسهم عن مكان تحت الشمس، ولكن هذه التجاوزات التى كان العبد لله أحد ضحاياها، لا تحط من قدر عبدالناصر ولا تنكر دور الثورة فى بعث مصر، والدليل على عظمة عبدالناصر أن جميع المصريين بمختلف ألوانهم دخلوا خيمته واشتغلوا معه، من أول الدكتور محمود فوزى شيخ الدبلوماسيين العرب، إلى الدكتور عبدالعزيز كامل الإسلامى إلى عثمان أحمد عثمان الرأسمالى إلى أنور سلامة وأحمد فهيم وعبداللطيف بلطية من العمال، بالإضافة إلى كوكبة من الرجال الوطنيين العظام «عزيز صدقى وعبدالعزيز حجازى وإسماعيل صبرى اليسارى وأحمد الخواجة ورفعت المحجوب ولبيب شقير وسليمان حزين وعاطف صدقى وفتحى سرور ومحمود الشريف وحسين بهاء الدين وكمال الشاذلى ومصطفى كامل مراد»، واشتغل معه كل الكتاب من أول محمد حسنين هيكل إلى أحمد بهاء الدين إلى محمود أمين العالم إلى فتحى غانم إلى ثروت أباظة، الذى أنتجت له مؤسسة السينما قصصه فى أفلام، وأنتجها التليفزيون فى مسلسلات، وسافر إلى الخارج فى وفود أرسلها عبدالناصر.

هذا هو عبدالناصر الذى يتهجمون عليه وبعضهم يتهكم عليه أيضًا، مع أننا لم نسمع منهم فى عهده إلا عبارات السمع والطاعة، لدرجة أن أحدهم أصدر كتابا عن تجربته ونشر فى الكتاب صورة لعبدالناصر وهو يتفضل بمصافحته، وكتب تحت الصورة ما معناه أن عبدالناصر ينحنى لسيادته! يا ناس حرام عليكم، فشهود يوليو لا يزالون على قيد الحياة، ولكن كتاباتكم الرخيصة هذه كانت السبب فى تضليل الشباب، وكانت السبب أيضا فى عاصفة الإرهاب التى هبت على مصر منذ فترة ومازلنا نعانى من آثارها حتى اليوم.

فى ذكرى ثورة يوليو، تحية وفاء وعرفان بالجميل إلى قائد الثورة ومفجرها ابن مصر البار وابن البوسطجى.. جمال عبدالناصر!