رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

فيسبوك.. بدل المخبر أبوبالطو


حكى لى عم فوزى، والد أخى حسام حبشى، أنه كان مطاردًا من البوليس السياسى فى الأربعينيات قبل ثورة يوليو، وكان عليه أن يجد مكانًا يختبئ فيه بأى طريقة ولدى أى شخص، فاتصل بأحد أصدقائه المقربين وعرض عليه المشكلة، واتفق على لقاء معه فى دير الملاك.

فى الموعد المحدد وقت الغروب كان عم فوزى واقفًا متنكرًا فى جلباب وبالطو وشارب كثيف ليتفادى تعقب البوليس له، وعندما وصل صديقه ووقف على الرصيف المقابل راح يتأمل فوزى من بعيد، بشك وقلق، ويدقق فى ملامحه، ثم حزم أمره واستدار فجأة وانطلق هاربًا معتقدًا أن فوزى مخبر! من خلفه راح عم فوزى يجرى ويصيح عليه: يا على.. أنا فوزى.. يا على! كانت هذه صورة المخبر التقليدية التى أظهرها الواقع ورسختها الأفلام فى الأذهان: جلباب وبالطو وشارب وجريدة مثقوبة يراقب منها الزبون.

ومع تبدل الأزمنة وتفجر الاكتشافات العلمية، اختفت صورة ذلك المخبر العزيز الذى لم يكن يعرف عن الزبون سوى أنه غادر البيت فى الساعة السادسة، ووصل إلى المقهى فى السابعة، وهلم جرا. اختفى المخبر التقليدى ابن البلد ليحل محله مخبر عالمى علمى حديث تقنى متطور لا حدود لقدراته تحت مسمى «فيسبوك»، و«تويتر»، و«إنستجرام» وغيرها من منصات التواصل العالمى. الآن يمكنك أنت شخصيًا بأقل جهد أن تكوّن صورة كاملة عن أى شخص فى فيسبوك. ويمكنك إذا تتبعت صفحته أن تعلم بأهون جهد من شكاواه المتكررة من أى الأمراض يعانى، ما هواياته، ميوله السياسية، دائرة الأصدقاء بالاسم والعنوان، الأكثر من ذلك يمكنك أن تعرف نقاط ضعفه الشخصية إن كان محبًا للنساء بشكل مبالغ فيه، أو كان باحثًا عن الكسب السريع، أو حتى إن كان عاطفيًا رومانسيًا يسهل تدبير قصة حب له أم لا.

ولا يتطلب تكوين صورة كاملة لأى شخص صحية واجتماعية وفكرية، سوى أقل جهد حتى من غير المختصين. هكذا اختفى البالطو والجلباب والشارب، لتحل محله الذبذبات الإلكترونية التى تدخل إلى أدق تفاصيل حياتك، ورسائلك، وحكايات أسرتك، وذكرياتك. وأصبح من الشائع أن تقدم إليك بعض المواقع أفضل الطرق والبرامج والنصائح بكيفية التجسس على حسابات الآخرين واختراقها. لهذا صرح جوليان أسانج، مؤسس موقع ويكيليكس، فى حوار له مع قناة روسيا اليوم، بأن «فيسبوك» يعد أكثر أدوات التجسس التى ابتكرها الإنسان رعبًا فى تاريخ البشرية. ومقابل ما تمنحه لك وسائل التواصل من مساحات مهولة لإقامة علاقات مع الآخرين أينما كانوا، فإنها تقتحم أدق خصائص حياتك: صورك الشخصية، ومحادثاتك، ورسائلك الغرامية، وأصغر أفكارك وخواطرك وأكبرها شأنًا فى القضايا السياسية والنظم الدولية والحروب والانقلابات والثورات.

وأكد جوليان أسانج أن فيسبوك يعد أكبر قاعدة بيانات خاصة بالبشر حول العالم فى تاريخ الإنسانية، وأيضًا محركات البحث المشهورة مثل «جوجل»، و«ياهو» وغيرهما، وأن كل تلك المواقع هى فى واقع الأمر واجهات لوكالة المخابرات الأمريكية، لكنه نوه بأن تلك المواقع لا تدار بشكل مباشر من المخابرات، لكن يتم الضغط عليها لتسليم ما لديها من بيانات. وهو المعنى نفسه الذى أكده اللواء محمود الرشيدى، مساعد وزير الداخلية لشئون أمن المعلومات والإنترنت الأسبق، حين قال فى تصريح له إن فيسبوك: يعتبر أعظم أداة تجسس فى العالم، موضحًا أن كل المنصات الإلكترونية على شبكة المعلومات الدولية واجهات للمخابرات الأمريكية للحصول على المعلومات. لقد أصبحت البشرية عارية أمام التكنولوجيا التى تستخدمها أعتى قوى الرأسمالية العالمية.

لهذا كتبت صحيفة «الديلى ميل» البريطانية ذات يوم، تقريرًا مطولًا عن «أدوات التجسس الحديثة» اختتمته بقولها: «فيسبوك يمكنه مراقبتك على الدوام». ويشير جيرالد نيرو مؤلف كتاب «مخاطر الإنترنت» إلى أنه فى ٢٠٠١ تم الكشف عن شبكات يديرها مختصون إسرائيليون ليستقطبوا عبر الإنترنت شبابًا من العالم الثالث، للعمل مع إسرائيل بعد التعرف على طبيعة هؤلاء الشباب. وفى الماضى تمكنت إسرائيل من مجرد تحليل صفحة الوفيات بالصحف المصرية خلال حروب «٥٦ و٦٧ و٧٣» من جمع بيانات حول العسكريين المصريين ووحداتهم وأوضاعهم الاجتماعية والاقتصادية، ما أدى إلى حظر نشر وفيات العسكريين فى فترة الحروب، إلا بعد موافقة عسكرية من الجهة المختصة.

لقد حولت ثورة الاتصالات عالمنا إلى قرية صغيرة، أشد تواصلًا وتماسكًا وأقرب إلى بعضها بعضًا، لكنها أيضًا وضعت البشرية عارية أمام التكنولوجيا، ووضعت البشرية تحت رحمة حكومة غير مرئية، وأدوات تجسس مذهلة، ما يحرك الحنين إلى المخبر الوطنى القديم، الغشيم، الساذج، وهو فى وقفته الخالدة على أرصفة المقاهى بجلباب وبالطو لا يتغيران.