رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

عمتى طيبة

جريدة الدستور



إن الشعور الحقيقى للراحة النفسية يكمن فى الإحساس بالأمان والطمأنينة فى ظل وطن آمن يجعلك تحلق فى آفاق متعددة من الجمال والمتعة دون الشعور بالقلق والخوف كمركب شراعى شرد من ملاحه أمام رياح عاتية ثم حركته المياه صوب البر فرسا.
والديبة ليست بغريبة على عيون وقلوب محبيها ممن يعرفون قدر هوائها النقى المشبع باليود عندما يتسرب إلى رئتى من يستنشقه وكأنه ثعبان يتلوى ببراعة فائقة على قفصه الصدرى بشكل حلزونى فى هدوء ويبدأ فى بخ شلالاته المتعددة وفى كل الأركان فيرتعش وقد بلغ ذروة النشوة فيعاود الكرة بفتح رأتيه على اتساعهما وملؤهما بالمزيد من الهواء كلما اقترب من تلك الأمواج المتلاحقة فى تحدٍ وإصرار حتى تتلاشى على الرمال الناعمة المبللة بمائه المالح كعداء وصل إلى خط النهاية بعد جهد جهيد ولكن بدون تصفيق ولا حتى جائزة.
والهدوء هو العنوان الأبرز لتلك القرية، حيث إن المساحات الخاوية أكبر بكثير من عدد سكان البيوت التى ضرب الملح أرضها فتآكلت الأساسات، وللغريب حق الاحتفاء بالبحر والاستمتاع به ولكن عليه أن يراعى مواعيد رمى الجرفة التى لا يحددها أحد بشكل مسبق ولا حتى شيخ الصيادين نفسه لكن اتجاه الريح وسرعتها ومواسم هجرة الأسماك مع اختلاف أنواعها وأحجامها كما أن لمعرفة النوات القادمة، أمر رئيسى فى تحديد ذلك الموعد.
وصوت البحر الهائج المتقلب دائمًا بزبده الرابض على الشاطئ أضفى على وجوههم السمراء طيبة وعلى سواعدهم صلابة وأكسبهم خبرة فائقة الدقة معها عرفوا التوقيت والملتم والاتجاهات الأربعة للريح فيستعدون بغزلهم الذى لا يملكون من حطام الدنيا سواه وبعض الفلايك والبحر فباتت وجوههم السمراء المبتسمة قانعة برزق الله الحلال لا يعرف إلا الصبر والمحبة.
فى بادئ الأمر، وقبل أن يبتلع البحر الغاضب ذلك الطريق القديم كغول ضخم مد يديه وسحبه إلى أحشائه فتاه بداخله، كانت القرية وطنًا واحدًا.
ولجأت الحكومة إلى شقه نصفين على اليمين حيث البحيرة والجامع الكبير القريب من الطريق والسنترال والإسعاف والروضة ومجموعة من البيوت بعضها من الخشب الملفوف دور داير بالكيب والبعض الآخر مبنى بالطوب الأحمر ووضعوا مقعدًا خرسانيًا تحت مظلة من الحديد أعلاها كُتب اسم القرية بخط أسود واضح لمن يود الانتظار والذهاب إلى بورسعيد حيث خيرات الجمرك والصابون المعطر بروائح التفاح والليمون والمانجو والجانب الآخر حيث الضهرة بمائها المالح وخيراته من الأسماك والجمبرى والحناجل والسمان والجامع الصغير وبعض الفلايك الراسية أمامه يقف عليها الأهالى لكى يتوضأوا بماء البحر ويستعدون للدخول للصلاة وشادر السمك والخلول الطازجة وبعض البيوت التى تميزت وجهاتها بالرسوم لمراكب الصيد الكبيرة والطائرات والجمال والكعبة المشرفة والخطوط الزاهية لأسماء بعض سكانها وأسماء أبنائهم وآيات قرانية وأدعية لبيك اللهم لبيك وذنب مغفور وحج مبرور ومن تلك البيوت بيت عمتى طيبة الذى تميز عن باقى البيوت برسومه، فزوجها أول من جاء بخطاط ورسام من بورسعيد وطلب منه أن يرسم له باخرة كبيرة وهو يهبط من فوق سلالمها محرمًا، وبعده قلده من استطاع دفع ثمن ذلك من باقى الصيادين.
الهدوء الذى يفرد جناحيه على المكان كطائر ضخم اصطفى تلك البقعة من الأرض بالذات ربما كان ذلك سببه قلة عدد سكانها الذين لا يتجاوزون عدد أصابع اليد وهم مجموعة من العائلات المعروفة وبالطبع الريس سلامة الرودى زوج عمتى طيبة من بينهم ليس لأنه شيخ الصيادين أبًا عن جد ولا لأنه يمتلك أكثر من فلوكة على البر وعددًا كبيرًا من غزل صيد الأسماك بكل أنواعها ولا حتى لامتلاكه منصبًا بعرض البحر يجهز شباكه فى شهر أكتوبر ويبدأ الصيد فى التاسع من نفس الشهر وحتى الخامس والعشرين من شهر نوفمبر بمساعدة سالم وسالمة وأحيانًا كثيرة عمتى طيبة.
الفصل الأول من رواية: الديبة
تحت الطبع