رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

.. وقتل الحسين لنصرة رسول الله



قلق فى روضته، تتراكم غيمات الحزن فى سماء روحه فتعكر وجه النفس المرضية.. ما باله هذا اليوم الذى وقف فيه على جبل عرفة يبدو بعيدًا.. قصيًا.. كأنه محال أو كأنه لم يكن.. «اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتى ورضيت لكم الإسلام دينًا»، لم تكن مجرد آية أو بشارة، كانت تقريرًا وحقيقة وواقعًا عاشه، فمن أين ينفذ السهم.. فيصيب قلوبًا ويلوّث أرواحًا؟ وإذا به يقف على حوضه يصدُّ الناس عنه منتظرًا أتباعه وعندما يتهلل وجهه لمرأى أناس يعرفهم، يحال بينهم وبينه، فيقول: «يَا رَبِّ مِنِّى وَمِنْ أُمَّتِى، فَيُقَال: أَمَا شَعَرْتَ مَا عَمِلُوا بَعْدَكَ».
منذ حمل الأمانة، حمل معها خوفًا مراوغًا على أتباعه، أوصاهم: إنما المؤمنون إخوة، ولا يحل لامرئ مال أخيه إلا عن طيب نفس منه، فلا ترجعن بعدى كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض، فإنى قد تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعده: كتاب الله وسنة نبيه».
فلم يمض زمن طويل على رقدته، وإذا بالأرض تضطرب وهى تحمل على ظهرها دماء مسلمين بسيوف مسلمة، اختلط الحق بالباطل، وأصبحت وصيته سندًا وشريعة لكل متضاد، وفى بستانه كان كل محارب يطأ الورود والزهور بقدميه، ويلتقط شوكة يغرسها فى قلب محاربه، وما كانوا يعرفون أنها تجرح القلب النورانى.
وجاء اليوم الذى قست فيه القلوب حتى منعت الماء عن ابن رسول الله، ادعاء لنصرة رسول الله وادعاء لإعلاء كلمة الله، وزادت فسفكت الدم الحرام، وما اعتذرت غير الأرض، ودم الحسين على ظهرها، قلبها يريد أن يواريه، وروحها تستنكف ما حدث، لكن عبدالله الذى أطلعه ربه على كل الأسرار، هدأ من روعها، وقال لها: ستقبلين الكثير، وسيكون حالى أن أهتف دائمًا.. أتقتلون ابنى من أجلى؟ أتقتلون ابنى باسمى؟ أتهتكون سترًا كان لبناتى باسمى؟ أتشردون أبنائى من أرضى باسمى؟ أتمنعونهم بيت الله باسمى؟ ويل للضلالات، ويل للهوى، ويل لدولتكم ويل لخلافتكم، إنما هى الدنيا، وعبدة الدنيا وإن ارتدوا ثياب وعاظ وكهان ومجاهدين وقواعد ودواعش، مالكم تقتلون باسمى وتسرقون باسمى وكأنى لم أقل: والله لا يأخذ أحدٌ منكم شيئًا بغير حقِّه، إلا لَقِى الله يَحمله يوم القيامة، ومن قتل نفسًا معاهدًا لم يرح رائحة الجنة.
آذانى كفار مكة وطردونى من أرضى، فما أرسلت قاعديًا، ولا داعشيًا يغتال أبا سفيان، أو يحرق لهم سوقًا.. ومنهم من كان يهجونى وهم من عرفونى وعاشوا معى وخبروا خلقى، ومن سألنى يا رسول الله، دع على المشركين. قلت «إنى لم أبعث لعانًا. وإنما بعثت رحمة»، فأكرمنى ربى بقوله: «وإنك لعلى خلق عظيم».
ويوم صلح الحديبية ما أساء إلىّ من لا يعترف بى رسولًا ونبيًا، لكن أساء إلى أن تسفك الدماء باسمى وتستحل الأموال والأعراض باسمى، تضيقون على الناس وتوسعون على أنفسكم باسمى وتدعون الناس للزهد وتخزنون الدولار فى بنوككم والدهون فى أحشائكم باسمى.. كأنى بكم فى موقفى منكم بأخى عيسى ابن مريم فى موقفه من كهنة المعبد والفريسيين «فوَيْلٌ لَكُمْ أيها الْمُرَاؤُونَ! لأَنَّكُمْ تُغْلِقُونَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ قُدَّامَ النَّاسِ، فَلاَ تَدْخُلُونَ أَنْتُمْ وَلاَ تَدَعُونَ الدَّاخِلِينَ يَدْخُلُونَ.. هكَذَا أَنْتُمْ أَيْضًا: مِنْ خَارِجٍ تَظْهَرُونَ لِلنَّاسِ أَبْرَارًا، وَلكِنَّكُمْ مِنْ دَاخِل مَشْحُونُونَ رِيَاءً وَإِثْمًا».
هذا ما قاله عيسى، وأنا أقول لكم: مابال أقوام ينصبون أنفسهم أربابًا من دون الله، «ارْحَمُوا مَنْ فِى الْأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِى السَّمَاءِ، إِنَّمَا يَرْحَمُ اللَّهُ مِنْ عِبَادِهِ الرُّحَمَاءَ، مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَغْرِسُ غَرْسًا.. أَوْ يَزْرَعُ زَرْعًا.. فَيَأْكُلُ مِنْهُ طَيْرٌ.. أَوْ إِنْسَانٌ.. أَوْ بَهِيمَةٌ.. إِلاَّ كَانَ لَهُ بِهِ صَدَقَةٌ، إنما جئت لأتمم مكارم الأخلاق».
مرهق، تعب، تطوف روحه بأرض يبدو فيها صوته غريبًا، تتوالى على سمعه كلمات تخرج من الأفواه باستخفاف، وبلا رؤية أو إحساس بمعنى، تمتلأ مساجد بأجساد، وترتفع أصوات، لكن الأرواح فى تيه، بعيدة، نائية، غافلة، لا تتواصل مع كونها أو ربها.. يزداد حزنه.. تعتذر له الأرض، يستحى الهواء، ينحسر البحر، يواسيه الكون بمخلوقاته.
يركن لجسم جبل، فيحن له جذع الجبل، وما تحمل جسيم الألم الذى تحمله نفس محمد، يناديه ملك الجبال، يسلم عليه، يقول: يا محمد، ذلك فيما شئت، إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين؟، فيقول: بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده، حقًا، ولا يشرك به شيئًا.