رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

زمن عبدالحليم حافظ


كنت أتمنى دائمًا أن يكون لى فى الكتابة صوت صافٍ ونقىّ، مثل صوت عبدالحليم حافظ فى الغناء، وكانت تلازمنى وأنا أكتب صورة عبدالحليم وقدرته المذهلة على أن يجعلك تسمع روحك أنت بينما تنصت إليه.

كان زمن عبدالحليم حافظ زمن الرومانسية الفردية والتاريخية بشكل عام، عندما كان الأبطال يُغيرون وجه العالم بشجاعة مذهلة تتخطى حدود الممكن والواقعى إلى عالم الأساطير. فى زمن عبدالحليم حافظ، قام نيكيتا خروتشوف بخلع حذائه وقرع به منصة الأمم المتحدة على مرأى من العالم، إشارة لاحتقار المنظمات الدولية المنافقة. وفى زمن عبدالحليم، صاح جمال عبدالناصر: «فلتشرب أمريكا من البحر إذا كان ما نفعله لا يعجبها»، وتجولت حينذاك روح جيفارا بين أحراش أمريكا اللاتينية ثائرًا فردًا أوقف حياته على ثورات الجياع، وفى زمن عبدالحليم شكل ياسر عرفات مجموعة صغيرة من الثوار أيقظت برصاصها الوعى الفلسطينى، وألهبت خطب باتريس لومومبا مشاعر الحرية فى بلاده، وتألق فى كل رقعة فرسان من زمن عبدالحليم حافظ. وكانت أغانى عبدالحليم وجهًا آخر للرومانسية العاطفية، شغل فيها المغنى الفرد معظم مساحات الأغانى، واقتصر دور الكورس على ترديد ما يبوح به المطرب من أشجان خاصة. لقد اختفى ذلك الزمن الجميل، توارى فى زمن داخل زمن، ومع ذلك فإننى أستاء بشدة من الذين يبكون على «الزمن الجميل»، وأعتبر أن لكل زمن جماله وعطره وشجاعته، وأن الحنين إلى الماضى بشكل مرضٍ يعنى فى واقع الأمر الهروب من الحاضر، ونسيان أن الواقع يختمر بأوقات وأزمنة جديدة جميلة أيضًا.

المشكلة أن المرء يحب وينتظر كل ما اعتاد عليه فحسب، وبعبارة أخرى ينتظر تكرار الأغانى والبطولات والروايات التى عرفها بينما الواقع أكثر ثراء بكثير من التصورات والخبرات المحددة. على سبيل المثال فإننا لا نسمع الآن فى الأغلب الأعم سوى أصوات نشاز لمطربين بآذان صمَّاء، يتغير اللحن فى حناجرهم كل مرة يترنمون به فيها، والغالبية العظمى منهم تضبط أصواتها داخل الاستديو فقط بفضل تطور الآلات الموسيقية والكمبيوتر وإمكانيات التسجيلات الحديثة، لكنهم يتعرون تمامًا فى الحفلات أمام الميكروفونات ليتضح أنهم لا صوت ولا صورة. وقد غزت الأصوات القبيحة، بكل معايير القبح، المجال الموسيقى وتسلطنت فى كل ركن، ومعنى ذلك أن المغنى الفرد لم يعد يحتل تلك المساحة والأهمية التى كان يحتلها زمن عبدالحليم حافظ، وأن الأهمية الآن صارت للأغنية كعمل موضوعى يتألف من عناصر مختلفة منها الصوت، بينما كان الصوت الفرد زمن عبدالحليم هو عماد الأغنية الأول. فى زمن عبدالحليم كان بوسع المغنى أن يُوقف الفرقة الموسيقية من خلفه بإشارة من يده، ليُكرر مقطعًا معينًا يعجبه. الآن لم يعد بوسع المغنى أن يفعل ذلك، لأننا أصبحنا نعلم أن أحدًا لا يستطيع أن يُوقف حركة المجتمع أو الفن أو التاريخ بإشارة من يده. لقد أصبح الصوت خاضعًا لعوامل عدة مركبة موضوعية، عليه أن يُنجز دوره فى إطارها العام وليس بالقفز خارج ذلك الإطار. ومن هذه الزاوية، فقد حققت الأغنية المصرية تقدمًا هائلًا حين وضعت دور الفرد فى حدوده الطبيعية داخل العمل الموضوعى. فأصبحت لدينا أغنية تخلت عن التكرار القديم، وعن استعراض المطرب لطبقات صوته على حساب سياق العمل وترابطه. والحديث عن الأغنية هو فى واقع الأمر حديث عن معظم أو كل إنتاج موسيقانا العربية. فقد كانت الأغنية هى الشكل الذى اكتسح عملية التطور الموسيقى لدينا، بينما فتح تاريخ الموسيقى فى العالم نوافذ عديدة لم تفتح لدينا منها: الموسيقى الصرف «السيمفونية»، والمسرح الغنائى الدرامى، وموسيقى الباليه، والموسيقى التعبيرية التصويرية. وقد تربعت الأغنية على عرش الموسيقى خاصة بعد أن توقفت محاولات سيد درويش الأولى لبناء مسرح غنائى درامى، ولم تنفع فى ذلك الطريق محاولات محمد عبدالوهاب فى الأشكال الغنائية الحوارية، مثل مجنون ليلى وغيرها. أيضًا فإن القالب السيمفونى الذى بدأه أبوبكر خيرت كان قد تعثَّر وتوقف تقريبًا، بحيث احتلَّت الأغنية مركز الصدارة، وأصبحت صندوق ذكرياتنا وعواطفنا، لهذا من الصعوبة بمكان أن نزيح عن مشاعرنا ذلك «الزمن الجميل»، زمن عبدالحليم حافظ، ومع أن ذكرياتنا كلها فى الزمن الماضى، فإن الزمن القادم الذى لن نعيشه لا بد أن يكون أجمل بكثير، وإلا كانت الحياة ركامًا من العبث لا يعرف الحركة والتطور، لذلك علينا ونحن ننظر إلى الماضى بحنين أن نتطلع إلى المستقبل بأمل.