رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

ثورة يوليو.. جدل مستمر


منذ أن اندلعت ثورة يوليو فى ٢٣ يوليو من عام ١٩٥٢ وهى مثار جدل بين مؤيد ومعارض، فمن يؤيدونها يطلقون عليها «ثورة»، فى حين أن المعارضين لها يسمونها «انقلابًا».. ورأيى الشخصى أنها ثورة حقيقية أيدها الشعب المصرى عند قيامها وباركها وهتف لمن قاموا بها من أعماق قلبه، لأنها كانت معبّرة عن طموحات المصريين، آنذاك، فى الإطاحة بطغيان وفساد عصر، كان لا بد أن ينتهى وتغلق صفحته فى تاريخ مصر، لأن هذا الحكم البائد وضع مقدرات البلاد والعباد رهن تصرف «طغمة منحرفة»، وكانت حرب فلسطين والأحداث المؤسفة التى أحاطت بها، والتى كشفت عن سوءات «الملك فاروق وعصره»، وكانت القشة التى حركت الجيش للقيام بحركته، التى تحولت إلى ثورة أيدها الشعب.
وقد يقول قائل إن ثورة يوليو فى سنى حكمها وقعت من بعض من يُحسبون عليها بعض التجاوزات والانحرافات، صحيح وقعت بعض الانحرافات والتجاوزات، وكان يتم التعامل وعلاج مواطن الخلل، وتم توقيع العقاب على من قاموا بها بالقانون أو بالقضاء والقدر، ولا يمكن لمنصف أن ينكر أن حكم الرئيس الراحل «جمال عبدالناصر» كان حكمًا وطنيًا يستهدف المصالح العليا للبلاد ويحافظ عليها، وكذلك حكم الرئيس الراحل «أنور السادات».
وهناك من يقول إن «عصر فاروق» لم يكن كله سوادًا وظلامًا بل شهد منجزات.. وهذا الرأى يجب ألا نأخذه كأمر مسلّم به.. صحيح شهدت مصر فى الأربعينيات من القرن الماضى ذروة النهضة الثقافية، وبرزت أسماء مثل عباس محمود العقاد وطه حسين وغيرهما من عمالقة الأدب والثقافة، ولكن هذا الأمر لا يُحسب بالطبع لفاروق أو غيره من حكام أسرة «محمد على»، فالإبداع يجد دائمًا، وعلى مر العصور، أرضًا خصبة فى مصر، سواء من أبنائها أو أشقائنا من الدول العربية والإسلامية التى صهرتهم فى بوتقتها، لدرجة أن طبيعة مصر الداعمة للثقافة والإبداع استقطبت عددًا لا يستهان به من الأوروبيين.. ومع ذلك نقول بكل إنصاف وتجرد إن هناك حكامًا من أسرة محمد على كانت لهم أيادٍ بيضاء على مصر، بل وعلى العالم، وفى مقدمتهم محمد على باشا، مؤسس الأسرة العلوية، وأحفاده إسماعيل الذى كان يسعى لتطوير مصر وفى القلب منها القاهرة، وحارب تجارة الرقيق، أكبر جريمة شهدها العالم بحق القارة الإفريقية، وشهد عصره افتتاح أول مجلس نيابى، وعباس حلمى الثانى الذى تصدى لمخططات الاحتلال البريطانى، وعزلته بريطانيا عن حكم مصر، والأمير عمر طوسون، الذى كان راعيًا ومشاركًا فى الفعاليات العلمية والخيرية، والأميرة فاطمة إسماعيل التى تبرعت بأرضها ومصوغاتها لبناء جامعة القاهرة.
أما الأمر الآخر الذى يسوقه من يهاجمون ثورة يوليو، أن هذه الثورة قضت على الحياة الحزبية فى مصر.. بالطبع كانت لدينا تجربة ديمقراطية ثرية شهدتها مصر قبل ثورة يوليو، ولكن فى السنوات القليلة التى سبقت الثورة ضعفت الأحزاب التى كانت على المسرح السياسى، ما جعلها تبتعد عن طموحات وآمال الشارع، مما دفع الشباب وقتها للانضمام للجماعات التى تعمل تحت الأرض ضد الملك وبريطانيا، وبالتالى فإن ضعف هذه الأحزاب، والإجراءات التى تلتها بحل الأحزاب القديمة واستبدالها بـ«الحزب الواحد»، أضعفت الحياة الحزبية، ولم تفلح الجهود التى قام بها الرئيس «السادات» لعودة الحياة الحزبية.
وعلى الجانب الآخر، فإن ثورة يوليو حققت نجاحات لا يمكن إنكارها فى مجالات التعليم والصناعة والإصلاح الزراعى، ويقف السد العالى شاهدًا على إنجاز ثورة يوليو، وكان بناؤه ملحمة كبرى فى مواجهة قوى الاستعمار.. وكان للسد العالى فوائد كبيرة وجليلة، منها أنه نظّم إيقاع نهر النيل وحوّله إلى قناة رى ضخمة، أمدت الزراعة فى مصر باحتياجاتها من المياه بصورة لم يسبق لها مثيل، كما أنه أوقف المياه التى كانت تذهب هدرًا إلى البحر الأبيض المتوسط، وجعلها فى خدمة مصر والسودان، طبقًا لاتفاقية ١٩٥٩ الموقّعة بين البلدين، كما حمى مصر من مخاطر الفيضانات المرتفعة والمنخفضة، وظهرت أهمية السد فى السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضى، حيث حمى مخزون السد من المياه الزراعة فى مصر، ففى حالة عدم وجود هذا المخزون لكانت مصر قد فقدت مساحات كبيرة من أراضيها الزراعية، وتعرضت للمجاعات، وتأثرت سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا، فضلًا عن إمداده مصر بالطاقة الكهربائية.. وعن حق، فإن بناء السد العالى «إنجاز ضخم»، ولا أبالغ إن قلت إنه يمحو كل الأخطاء التى وقعت فيها ثورة يوليو.
وفى النهاية.. فإن ثورة يوليو، رغم الجدل المثار حولها حتى الآن، فى ذمة التاريخ، لها ما لها وعليها ما عليها، ولا يمكن لمنصف أن ينكر أن من قاموا بها كان هدفهم تحقيق استقلال الوطن وتخليصه من الطغيان.. وستظل ثورة يوليو مع ثورة ١٩١٩، التى سبقتها، وثورة ٢٥ يناير، وثورة ٣٠ يونيو، ثورات شعبية قامت لتخليص الوطن من الشرور.