رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

شباك مكسور وطاقة نور على مسرح الطليعة


فى طريقى إلى مسرح الطليعة أنا وزوجى لرؤية مسرحية «شباك مكسور»، بدعوة كريمة من الزميل الفنان مجدى عبيد، ازدحمت الذكريات وتداخلت فى رأسى عن مسرح الطليعة فى سبعينيات وثمانينيات القرن الماضى، الذى تربينا على أفكاره وإبداعاته الفنية على يد مخرجين مبدعين مجددين فى الرؤية الفنية والإخراجية برئاسة المايسترو سمير العصفورى.

جلسنا معًا بهدوء لمتابعة الأمسية الفنية المسرحية «شباك مكسور» للمبدعة المؤلفة رشا عبدالمنعم التى تعبِّر عن فكرتها بكل عذوبة وشجن وحزن وفرح، عن أسرة مصرية تشبه ملامحها ملامحنا وهمومها همومنا، والمسرحية من إخراج المخرج الشاب المبدع شادى الدالى الذى استطاع بتقنيات فنية عالية وبسيطة فى نفس الوقت، أن يشدنا إلى خشبة المسرح التى تحولت إلى شقة صغيرة لأسرة من أسر هذا الوطن الكبير الذى يضمنا جميعًا، هذه الشقة بها عدد من الشبابيك المغلقة، فيما عدا شباك مكسور فى الخلف يطل على خرابة خلف البيت، تهب منه الروائح الكريهة، وتطل منه وجوه تفرض نفسها علينا.

فى عرض تدور أحداثه بسرعة ورشاقة وحماس، يستعرض لنا الأب الذى يعول الأسرة المكونة من والدته والتى تحصل على معاش ٢٧٥ جنيهًا، والزوجة التى تعتمد على راتبها فقط، فهى لا تعطى دروسًا خصوصية، والابنة الصغرى فى الثانوية العامة وما أدراك ما كابوس الثانوية العامة ودروس ومصاريف الثانوية العامة، والابن الأوسط فى الصف الثالث فى الجامعة يدرس الفلسفة والتى «أكلت مخه»، كما يقول الأب، حيث إنه يفكر فى الكون والتغيير، لأن سُنة الحياة التغيير، ودوام الحال من المحال.

ونجىء إلى الابنة الكبرى لواحظ، والتى قامت بدورها وئام عصام المبدعة المتألقة التى ملأت المسرح حياة، وجعلتنا نشاركها همومها. هذه الابنة تزوجت وحملت وأنجبت طفلًا كبيرًا عمره ثلاث سنوات، وطفلة رضيعة رجعت بهما إلى بيت أبيها، بعد أن خرج الزوج ولم يعد. ومع هذه الأسرة نجد عم جمعة، والذى يعتبر جزءًا من الأسرة، فهو دائمًا يدخل من الشباك المكسور وأحيانًا من الباب، لتجده معهم يدس أنفه ويشاركهم فى كل شىء تقدر تقول عليه «مخلصاتى ومشهلاتى» ثرثار فاتح فمه، ودائمًا يده ممدودة ليأخذ المعلوم، يقوم بدور عم جمعة الصديق العزيز رفيق درب خشبة مسرح الثقافة الجماهيرية خفيف الروح والظل والحركة، عميق التعبير والإحساس الفنان مجدى عبيد.

تبدأ المسرحية بكابوس يحكيه الأب عن قيامه بارتكاب جريمة قتل أسرته، وهى جريمة من الجرائم التى يتم ارتكابها فى الفترة الأخيرة، بجانب عدد من الجرائم العنيفة والغريبة والشاذة والبعيدة عن قيمنا وأخلاقنا وشيمنا وديننا، والتى زادت فى الشهور الأخيرة هربًا من الحياة الخانقة والفقر الذى يولِّد الجهل الذى تولد معه الخرافات.

يدس الأب لعائلته سم الفئران فى طبخة المكرونة ليأكل الجميع ويناموا، فنتخيل جميعًا أنهم ماتوا ولكن يستيقظ الجميع لاستكمال حياتهم فى لقطة رائعة تعبر عن الواقع الذى تعيشه الأسر المصرية وأغلبية الشعب المصرى، ونخرج من المسرحية وبداخلنا تدور الأسئلة: هل هناك فرق بين حياة كلها معاناة وضغوط وفقر وقهر، والموت؟ فهناك يا سادة من يعيشون الحياة ولكنهم أموات.
بقى أن نقدم التحية لكل من أمتعونا بهذه الليلة الفنية من ليالى مسرح الطليعة.
أحمد مختار المذيع المعروف والممثل القدير فى دور الأب عطية، رشاقة الحركة وحماسة الأداء وعمق الإحساس، صدقناه فى كل لحظة وصدقنا معه زوجته فاطمة والتى قامت بدورها الفنانة نادية شكرى، والتى تعود إلى خشبة المسرح بعد طول غياب، فراشة تملأ المسرح بحيويتها حملنا معها كل همومها كزوجة وأم وجدة، وبكينا معها فى مشهدها الرائع الذى لخص لنا معاناة الأم المصرية، وما تحمله على كاهلها من مشاكل تحاول حلها، ولكن تلتف حولها الهموم كحبال لتخنقها وتخنق أسرتها. عشنا مع الابن خالد «مروان فيصل» والابنة الصغرى سمر بشقاوتها «شريهان قطب» والابنة الكبرى لواحظ والجدة «فريدة عزب»، التى ملأت المسرح حياة بثرثراتها وتعليقاتها.
وكل التحية للممثل الرائع على كمالو، والذى قام بدورين زوج الابنة الكبرى الموظف المطحون ليل نهار. بكينا معه على معاناته وضحكنا معه وهو يؤدى دور الطفل الذى يملأ المسرح ضجيجًا ولعبًا وصراخًا، ولا ننسى تقديم التحية للممثل خالد السعداوى والذى قام بدورى المدير والإعلامى الذى يقوم بتقديم جميع البرامج، فهو الداعية الذى يعظ المشاهدين بالخرافات ومذيع المنوعات ومذيع منتصف الليل عن الحب والآهات.
كل التحية للمخرج الشاب شادى الدالى المتمكن من أدواته الفنية واختياراته للنص وللممثلين والممثلات، واستغلاله خشبة المسرح وجعلها جزءًا من حياتنا، وذلك بمساعدة مجموعة من الفنيين المبدعين فى الديكور والأزياء وائل عبدالله، والموسيقى المعبرة للموسيقى يحيى نديم والموزع شريف الوسيمى، والتحية لمصمم الإضاءة أبوبكر الشريف.
ومن «الشباك المكسور» نطل على الحلم ونرى طاقة نور وينهض الأمل من وسط الألم، ليرسم حلم التغيير للحياة الأجمل. وقبل أن أنهى مقالى، أرجو من الفنانة عازفة الفلوت المبدعة وزيرة الثقافة الدكتورة إيناس عبدالدايم مد العرض لأطول فترة، بل وإرساله إلى المدن الساحلية ومنها الإسكندرية، فنحن بالتأكيد فى حاجة إلى مزيد من العروض المسرحية، فالفنون تولِّد شعاعًا من التنوير والثقافة لمواجهة الأفكار الظلامية التى تولِّد العنف والإرهاب.
كما أرجو حل المشكلات الخاصة بالمسرح، فمدخل المسرح مسدود بالباعة والقمامة، وحوش المسرح مظلم، ويافطة المسرح مظلمة، كيف يمكن أن نعبر وسط القمامة والظلام والضجيج الذى يصم الآذان والروائح التى تزكم الأنوف، لنصل إلى الذوق والفن والجمال؟.