رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

مصر والدائرة الإسلامية«2»




مع انتهاء الحرب العالمية الثانية عادت مسألة مسلمى يوغوسلافيا تطرح نفسها من جديد على الساحة المصرية، فقد أدى وصول «تيتو» إلى الحكم وتطبيق المذهب الشيوعى فى يوغوسلافيا إلى العديد من التغيرات فى أنظمة الإدارة اليوغوسلافية، التى أثرت على بعض مظاهر الحياة الإسلامية فيها، منها قيام الحكومة اليوغوسلافية فى عام ١٩٤٦ بإلغاء المحاكم الشرعية واستبدلتها بمحاكم أخرى غير دينية. وصاحبت ذلك حملة اعتقالات قامت بها الحكومة لعدد من رموز المجتمع الإسلامى هناك، ومنهم مدير الأوقاف ورئيس هيئة علماء البوسنة، بتهمة التعاون مع الاحتلال الألمانى أثناء الحرب العالمية الثانية، فضلًا عن ولاء هؤلاء الزعماء المسلمين لحكومة كرواتيا التى تشكلت أثناء الحرب، وكانت من وجهة نظر حكومة «تيتو» موالية للنازية.
فى أعقاب هذه الإجراءات طلبت الخارجية المصرية من مفوضيتها فى بلجراد ضرورة تحرى أوضاع المسلمين فى يوغوسلافيا، ودراسة ما قام به النظام الشيوعى الجديد من تغيرات، وأثر ذلك على المسلمين بها. وقد أشار تقرير المفوضية المصرية إلى نقطة مهمة، حيث أوضح أن تعسف الحكومة اليوغوسلافية لم يقتصر على الجانب الإسلامى فحسب وإنما امتد ليشمل كل المؤسسات الدينية، فى إطار خطة الحكومة لتحجيم دور المؤسسات الدينية لصالح مؤسسات النظام الشيوعى الجديد.
ولقد اقترح المسئول عن المفوضية المصرية القيام بزيارة إلى سراييفو للاتصال بزعماء المسلمين بها، وتقصى أحوال المسلمين هناك، لكن الخارجية المصرية تخوفت من إتمام هذه الزيارة المقترحة والعواقب الدبلوماسية التى قد تنتج عنها، إذا نجحت الحكومة اليوغوسلافية فى كشف أمرها. لذلك أرسل وكيل وزارة الخارجية المصرية برسالة إلى المفوضية المصرية فى يناير عام ١٩٤٧، مشددًا على ضرورة الامتناع عن هذه الزيارة أو حتى الاتصال بالمسلمين بصفة عامة، إذا كان ذلك سيثير الشكوك من جانب الحكومة اليوغوسلافية، كما نبه إلى ضرورة أن تكون المفوضية المصرية على جانب كبير من الحذر واليقظة فى هذا الشأن.
ولم يقتصر الاهتمام الرسمى بأوضاع مسلمى البوسنة والهرسك على وزارة الخارجية فحسب، إذ أبدى القصر الملكى فى مصر اهتمامًا ملحوظًا بهذا الأمر، وذلك فى إطار حرص الملك فاروق على إبراز الهوية الإسلامية للقصر، نظرًا لمكانة مصر فى العالم الإسلامى وحرص القصر على استثمار ذلك، أو لعلو المد الإسلامى فى مصر آنذاك. ففى ١٩٤٦ التقى الوزير المفوض ليوغوسلافيا فى القاهرة الملك فاروق، الذى أبدى اهتمامًا بشأن المسلمين هناك، وطلب مقابلة مندوب الطلبة اليوغوسلاف المسلمين فى القاهرة، إلا أننا لا نعلم على وجه اليقين إذا كان الملك قد التقى مندوب الطلبة أم لا.
على أى حال، هذا الأمر يوضح لنا مكانة مصر بين المجتمعات الإسلامية، وهى المكانة التى حرص مندوب الطلبة على ذكرها فى مذكرته للملك فاروق «فى الواقع تتجه أنظار الجاليات الإسلامية إلى مصر أكثر من أى بلد آخر»، وفى نفس الوقت حرص القصر على استثمار هذه المكانة وتدعيمها دون أن يترتب على ذلك أى مشاكل خارجية، لأننا لم نعثر على أى إجراءات إيجابية من جانب القصر فى هذا الشأن.
وإزاء سياسة النظام الشيوعى الجديد فى تقليص دور الدين وتحجيم المؤسسات الدينية، وعدم الاهتمام بدور العبادة، تبرعت بعض أجهزة الحكومة المصرية بمبلغ من المال من أجل إصلاح وصيانة المسجد الكبير ببلجراد، لكن الحكومة اليوغوسلافية اعترضت على هذا الأمر بشدة واعتبرته تدخلًا فى شئونها الداخلية. من هنا أدركت الحكومة المصرية صعوبة الأمر وحرجه، وفى نفس الوقت كان على الحكومة أن تجد مخرجًا تستطيع به إبراز دورها الإسلامى، سواء أمام الشعب المصرى، أو مسلمى يوغوسلافيا، دون أن يتسبب ذلك فى أزمة دبلوماسية مع الحكومة اليوغوسلافية. من هنا عمدت الحكومة المصرية على توجيه هذا المبلغ إلى شراء بعض الكتب الإسلامية وإهدائها إلى مكتبة «مدرسة غازى رستم» فى سراييفو.
انتقل الاهتمام بمشكلة مسلمى البوسنة والهرسك آنذاك إلى قطاعات عريضة من الشعب المصرى، وعبّر عن ذلك اهتمام الصحف المصرية، على اختلاف اتجاهاتها العلمانية والإسلامية، بهذا الشأن، حتى أن صحيفة علمانية مثل «المصرى» قدمت استعراضًا عميقًا وحماسيًا فى نفس الوقت لأوضاع مسلمى البوسنة والهرسك فى ست حلقات كتبها أحد المحررين، على إثر زيارة عمل قام بها فى البوسنة والهرسك، وناشد الحكومة المصرية والمجتمع الدولى التدخل لإنقاذ مسلمى البوسنة والهرسك.
كما أولت جريدة «الأهرام» اهتمامًا إلى حدٍ ما بأوضاع مسلمى يوغوسلافيا، وإن حرصت فى الوقت نفسه على التأكيد أن تعسف النظام الشيوعى الجديد ليس مقصورًا على المسلمين فحسب وإنما هو موجه أيضًا إلى الكاثوليك، كما نلاحظ الاهتمام الطبيعى والمُفسَّر من جانب الصحافة الإسلامية فى مصر بأوضاع مسلمى يوغوسلافيا.