رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

مافيا التعويضات.. صندوق التأمينات الاجتماعية يستولى على أموال عمال القطاع العام

جريدة الدستور

شتاء يونيو العام 2012، صعد محمود سعد، 30 عامًا، عامل بالهيئة العامة لنظافة وتجميل القاهرة (شركة حكومية)، إلى أحد عواميد الإنارة في شارع كورنيش النيل بالقاهرة؛ لإصلاح عطل في كشاف الإضاءة واستبداله بآخر، إلا أن شدة الرياح في ذلك الوقت، أسقطته على غفلة من أعلى السلم على الأرض.

أصيب بكسور بالغة في أماكن متفرقة من جسده؛ أدت في النهاية إلى بتر ساقه اليمنى، وأجلسته في منزله قعيدًا لا يتحرك، وحين طالب الشركة الحكومية بتعويضه ماديًا عن إصابته -وفقًا لقانون تعويضات إصابات العمل رقم 79 لسنة 1975- رفضت وفصلته من عمله.

"محمود" هو عامل بالقطاع الحكومي، تعرض لإصابة عمل أثناء تأدية وظيفته، ولم يستطع الحصول على تعويض مادي من قبل صندوق التأمينات الاجتماعية التابع لوزارة التضامن الاجتماعي –المنوط به ذلك-، ضمن عشرات من عمال القطاع العام، الذين أصبحت حياتهم بلا ثمن، ومهددون بالموت والإصابة في أي وقت دون مقابل.

"الدستور" تكشف في التحقيق التالي، عن حقيقة صندوق التأمينات الاجتماعية، الذي يحصل على ملايين الجنيهات من وزارة التضامن الاجتماعي كل عام؛ من أجل تعويض العمال الذين يعملون بالقطاع العام، ويصابون أو يتوفون أثناء تأدية وظيفتهم، ولا يقوم أحد بتعويضهم، وذلك عبر حكايات مُسجلة وقضايا ومحاضر موثقة لعمال لم يحصلوا على حقوقهم وتعويضاتهم؛ ما جعل هذا الصندوق يتحول إلى مافيا تستولي على حقوق وأموال هؤلاء الضحايا، في غياب رقابة وزارة التضامن الاجتماعي.

"محمود" توفى متأثرًا بإصابته بعد عام من بتر قدمه
"محمود" عامل حكومي، مؤمن عليه بتأمين اجتماعي يحمل رقم 18813151، لم يكن أمامه سوى رفع دعوى قضائية ضد الهيئة العامة لنظافة وتجميل القاهرة، حملت رقم 395 لسنة 2013 في محكمة شمال القاهرة، طالب فيها بتعويض مادي 140 ألف جنيهًا، تكاليف الأضرار الجسمانية التي لحقت به، ولعلاج إصابته وإجراء جراحة عاجلة له.

تحكي زوجته لـ"الدستور"، أن الشركة رفضت إعطائه التعويض بحجة عدم وجود أموال كافية، ولم تقم بتشكيل لجنة طبية مختصة لتوقيع الكشف الطبي عليه، والإقرار بإصابته التي وقعت أثناء تأديته لعمله، فما كان منه سوى رفع تلك الدعوى القضائية.

مرّ عام واحد على تلك الواقعة، حتى توفى "محمود" متأثرًا بإصابته لعدم قدرته ماديًا على إجراء تلك الجراحات العاجلة، وتابعت زوجته سير القضية في الجلسات المتتابعة لمدة أربع سنوات، كي تحصل على تعويض زوجها وتعول أبنائها الأربعة، إلا أن تتابع الجلسات دون جديد دفعها لترك القضية وعدم متابعتها.

تأسس صندوق التأمينات الاجتماعية عام 1975، وضمن اختصاصاته تقديم خدمات التأمين الاجتماعي والصحي لإصابات العمل، وتأمين العامل من أي خطر يحدث له أثناء عمله، يؤدي إلى انقطاع الدخل له أو لأسرته، لضمان عيشة كريمة لهم بعد وفاته وذلك للعاملين بالقطاع العام.

كما يكفل نفقات الانتقال إلى جهة العلاج وتعويضًا عن أجره في فترة انقطاعه عن العمل نتيجة الإصابة، وتعويضًا عما يصيبه من عجز أو وفاة نتيجة الإصابة، وفقًا لما جاء بالموقع الرسمي للصندوق الذي تستقل ميزانية تمويله بصناديق خاصة، ذات ذمة مالية منفصلة عن الذمة المالية للخزانة العامة للدولة، تشرف عليها وزارة التضامن الاجتماعي.

"جمال" أصيب بشلل رباعي ولا تزال قضيته قائمة
أثناء تنفيذ شركة النصر للمقاولات العامة (حكومية)، مشروع النادي الاجتماعي بالإسماعيلية، في فبراير عام 2016، كان عددًا من عمال الشركة يقومون بتبليط أحد حجرات النادي، وفجأة شعر الجميع بإن الأرض تهتز من تحت أقدامهم، وبدأت بعض الأحجار الصغيرة تسقط عليهم، ففر جميع العمال هاربون من الحجرة، إلا العامل جمال محمود، الذي لم يستطع اللحاق بأصدقائه، فسقط "سقف" الحجرة عليه وأوقعه مغشيًا.

حين أفاق "محمود" من غيبوبة استمرت 24 ساعة، وجد نفسه راقدًا في مستشفى الإسماعيلية، وتحيطه الضمامات من كل اتجاه، فعلم وقتها إنه أصيب بقطع في الحبل الشوكي، وكسر مضاعف في الأطراف الأربعة، وارتجاج من الدرجة الأولى بالمخ؛ ما أدى لإصابته بشلل رباعي فأصبح قعيدًا، وانتابته حالة من الاضطرابات في الوعي والقلب، وأصبحت ردود أفعاله غير طبيعية، وهو يعول 3 أبناء في مراحل تعليم مختلفة.

"جمال"، هو عامل حكومي غير مؤمن عليه بالمخالفة للقانون رقم 79 لسنة 1975 الذي ينص على أن التأمين الاجتماعي لعمال الحكومة يكون إجباريًا، ويتم تعويضهم ماديًا حال إصابتهم من قبل الصندوق، إلا أنه لم يأخذ تعويضه المادي، بعدما رفضت الشركة ذلك، ولم يكن أمامه سوى رفع دعوى قضائية طالب فيها بالتعويض، حملت رقم 5449 لسنة 2016، ونظرتها محكمة شمال القاهرة بمنطقة عابدين بالقاهرة، طالب فيها بتعويض مادي بقيمة 150 ألف جنيهًا؛ نظرًا لإصابته التي أقعدته في منزله بلا عمل، ولازالت المحكمة تتابع جلسات القضية إلى الآن.

الاتحاد المصري لحقوق الإنسان: "التعويضات حق قانوني.. والغضب العمالي لا يمكن صده"
يقول نجيب جبرائيل، رئيس الاتحاد المصري لحقوق الإنسان، إن تعويضات الإصابة هي أبسط شيء ممكن أن تقدمه وزارة التضامن الاجتماعي للعمال، لكونهم يعملون في ظروف خطرة بلا تأمين أو حماية خاصة، وحين يموت أو يصاب أحدهم لا يجد ثمن علاجه.

ويشير لـ"الدستور" إلى أن الحالات التي رصدها التحقيق توضح أن وضع العمال يسوء يومًا تلو الآخر، وعدم حصولهم على تعويضات الإصابات يزيد من إحساسهم بوجود فجوة بينهم وبين فئات المجتمع ما يدفعهم للغضب الذي لا يمكن صده.

ويشدد على ضرورة وجود هيئة رقابية تتابع الواردت والمصروفات التي يقوم بها الصندوق، لاسيما في الجزء الخاص بإصابات العاملين بالقطاع الحكومي؛ لأن عدم وجود رقابة يؤدي في النهاية إلى ضياع حقوق هؤلاء العمال.

خلال بحثنا وجدنا أن التقرير المالي السنوي للصندوق لم يتم تحديثه على الموقع الإلكتروني منذ عام 2010، رغم التفاعل في باقي أقسام الموقع الخاص بالصندوق، ووفقًا لتقرير التمويل الخاص بالصندوق، والذي صدر بين عامي 2005 2006، ويُعمل به من حينها حتى 40 عامًا، فيحصل الصندوق على ميزانية من وزارة المالية تبلغ ٥٦٤ مليار جنيهًا سنويًا، يصرف منهم تعويضات إصابات العمل قرابة 174 مليون جنيهًا وفقًا لموقعه الإلكتروني.

حسانين: عاهتي مستديمة ولم أحصل على تعويض حكومي
حالة ثالثة وأخيرة، وثقها التحقيق، هو ياسر محمد حسانين، شاب في مقتبل عمره، يقطن بحي شبرا التابع لمحافظة القليوبية، التحق بالقوات المسلحة ليعمل كمندوب "كانتين" وبوفيه بالوحدة، التي حملت رقم 748 مدفعية.

وفي صباح 24 ديسمبر عام 2000، حدثت الكارثة التي لم يكن يتوقعها، حيث كان في طريقه لاستقلال القطار الحربي من محطة إمبابة للذهاب إلى وحدته العسكرية، وفجأة تعثرت قدماه على سلم القطار فهوى تحت عجلاته فدهس ساقه اليسرى بسرعة جنونية، وتم نقله إلى مستشفى إمبابة العام، وتحرر محضر بالواقعة يحمل رقم 759 لسنة 2000 عوارض شرطة عسكرية، وذلك بعدما نتج عن الإصابة عاهة مستديمة بنسبة 100%، وبناء على ذلك أقرّ القومسيون الطبي، في 9 ديسمبر من العام نفسه، بإن تلك الإصابة كانت أثناء وبسبب الخدمة.

يناير عام 2001، أُنهيت خدمة "حساسين" لعدم اللياقة الطبية، إلا أنه لم يحصل على التعويض المادي الذي يُمكنه من استكمال حياته بشكل طبيعي؛ ما دفعه إلى رفع دعوى قضائية تحمل رقم 7292001 تعويضات شمال القاهرة ضد وزير الدفاع بصفته وقتها، والتي حكمت بضرورة تعويضه بمبلغ قدره 175 ألف جنيهًا.

محامون التعويضات: "شركات الحكومة تتبع طريقة الترضيه مع العمال المصابين"
ممدوح فهمي، المحامي المختص بقضايا التعويضات، يؤكد أنه استقبل الكثير من تلك الحالات لاسيما الخاصة بعمال القطاع العام، مشيرًا إلى أن البعض منهم حين تعلم الشركة الحكومية بلجوئه إلى التقاضي تحاول أن تعقد مُصالحة معه ومراضاته بأي مبالغ مالية تكون أقل ماديًا مما هو منصوص عليه.

"الحصول على تعويض من شركة حكومية مقابل إصابة أصبح شيء يشبه المستحيل"، "فهمي" يفسر ذلك لـ"الدستور"؛ بسبب تهرب تلك الشركات، وعدم وجود عقود مبرمة أو تأمينات رسمية بين هؤلاء العمال والشركات الحكومية.

ويستكمل عنه إسلام مجدي، محامي مختص في التعويضات، أن مقدرات التعويضات يحكمها القانون رقم 79 لسنة 1975، مشيرًا إلى أن العامل يحصل على تعويض إثر إصابة عمل لكن مقدار التعويض نفسه يكون بنسبة تقديرية تحددها المحكمة حسب الإصابة نفسها، أما في حالة إصابة العمل التي تؤدي إلى العجز الكلي أو الوفاة، فقد حددها القانون ومقدارها 40 ألف جنيه.

وفي حال اتجاه العامل للقضاء بعدما تعسفت الشركة أو المؤسسة التابع لها ورفضت إعطاؤه التعويض القانوني، فإنه يحصل على الصيغة التنفيذية للحكم ويتم تنفيذها عن طريق محضري التنفيذ في المحكمة وتنفذ بقوة القانون.. حسبما يؤكد محامي التعويضات.

درجة تقييم الإعاقة تتحكم في قانون تعويض مصابي الحكومة
تنص المادة رقم 5 من قانون التأمين الاجتماعي لعام 1975، على أنه في حالة العجز الكلي الدائم أو الإعاقة، فيحصل العامل على فائدة قدرها 80٪ من متوسط الدخل الشهري في العام قبل بدء الإعاقة، وفي حالة العجز الجزئي، إذا كانت درجة الإعاقة المقررة بين 35 إلى 100٪، فيتم دفع النسبة المئوية للمعاش للعجز الجزئي وفقًا لدرجة تقييم الإعاقة.

وفي حالة العجز المؤقت، يتم دفع 100٪ من الأجر اليومي للعامل من اليوم التالي لبدء العجز، وحتى فترة الحصول على الشفاء أو شهادة العجز الدائم الكامل، وتُدفع فائدة يومية أو أسبوعية أو شهرية اعتمادًا على وتيرة دفع الأجور للمؤمن عليه.

وفي حالة الإصابة القاتلة، فيتلقى المعالين وهم: (الأرملة أو الأرمل ذوي الاحتياجات الخاصة، والأطفال والآباء والإخوة والأخوات) معاش الورثة، ويتم دفع 80٪ من متوسط الدخل الشهري في العام الماضي، قبل وفاة العامل المؤمن عليه كما يصلح للورثة، ويمكن أيضًا أن يدفع معاش الورثة كالمقطوع.

بلغ عدد إصابات عمال القطاع العام 11280 حالة عام 2014، مقابل 12304 حالات عام 2013، وفقًا لآخر إحصائية صدرت عن الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء في نفس العام.

ويمثل عمال تشغيل المصانع ومشغلي الماكينات وعمال الإنتاج أعلى نسبة إصابة، إذ بلغت 34.9%، يليها العمال الفنيون ومساعدو الأخصائيين بنسبة 27.7% من إجمالي عدد الحالات المصابة، طبقًا للإحصائية ذاتها.

إهمال وسائل الأمن الصناعي شبح يهدد عُمال الحكومة
تعود تلك النسب المتزايدة في إصابات العمال، إلى عدم وجود تأمين صناعي في الكثير من الشركات والهيئات الحكومية، فالسلامة والصحة المهنية داخل بيئة العمل لهما قانون يحكمهما، وفقًا للدكتور مجدي صليب، مدير مركز الأمن الصناعي سابقًا.

"صليب" يؤكد لـ"الدستور"، أن ذلك القانون موجود في الباب الخامس من قانون العمل، موضحًا أن كل بيئة عمل لها اشتراطات سواء اختيار موقع المصنع وأماكن العمل بالنسبة للمنشآت واختيار العاملين، ولكل منهم اشتراطات معينة تختلف حسب تخصص المصنع.

"كما ينص القانون على إلزام وجود فني سلامة وأخصائي سلامة مع كل عدد معين من العمال والذين يتم تدريبهم لدينا في مركز الأمن الصناعي"، حسبما يشير "مجدي"، مضيفًا أن وسائل السلامة المهنية لم تختفِ بل غلب عليها الإهمال والقصور، معللًا ذلك بإن كل العاملين في هذا المجال لم يجدوا الرعاية المادية من الدولة.

تنص المادة رقم 224 من قانون العمل على "إعداد جهاز متخصص متدرب ذو مؤهلات علمية للتفتيش على المنشآت وتزويدهم بأجهزة القياس"، والمادة 227 جاء فيها: "إنشاء أجهزة وظيفية للسلامة والصحة المهنية وتأمين بيئة العمل ولجان مختصة لبحث ظروف العمل وأسباب الحوادث والإصابات والأمراض المهنية والاحتياطات الكفيلة تجاهها".