رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

تعاليم نافعة من قصة «ديل الأرنب»


فى عام ١٩٥٨– كنت تلميذًا بالفرقة الرابعة الابتدائية وكنت أبلغ من العمر ثمانية أعوام– وكانت لى فرصة للاطلاع على قصة مصورة للأطفال، تحمل اسم «ديل الأرنب»، وأتذكر أن الكتاب كان من القطع الكبير وغلاف الكتاب لونه أخضر، وأن الطبيب البيطرى الذى كان فى القصة كان شعره أبيض ويرتدى نظارة. ولعمق التعاليم التى بها، فقد أثّرت فىّ تأثيرًا شديدًا حتى وقتنا هذا، ربما أكثر من عظات كثيرة سمعتها ومعظمها كلام فى الهواء دون فائدة حقيقية، لأنها غير صادرة من عمق حياة داخلية صادقة!! فلم أشته يومًا ما بيد أخى، ولم أتطلع يومًا إلى أى مركز إدارى. وما تعلمته منذ أكثر من ٦٠ عامًا أعود وأكرره على مسامع الكبار، الذين تذمروا على نعمة الله لهم.
ملخص القصة أنه كان هناك أرنب متذمر على «ذيله» ومتطلع إلى «ذيل» غيره من الحيوانات. فذهب إلى طبيب بيطرى فى مختبره، طالبًا منه تغيير ذيله بذيل الفار. فقام الطبيب بإجراء التغيير المطلوب. خرج الأرنب من المختبر مزهوًا بذيل الفار وكأنه بلغ غايته المطلوبة وأنه سيكون أفضل من جميع الأرانب الأخرى التى ستنظر إليه بإعجاب وتقدير وربما باحترام!! لكن عندما بدأ يمارس نشاطه المعتاد ويخترق الأسلاك الشائكة، التف ذيل الفار بالأسلاك ولم يستطع الأرنب أن يستكمل نشاطه، وحينئذ أدرك أن ذيل الفار لا يناسبه. فتوجه الأرنب للمختبر مرة أخرى وهو متذمر طالبًا من الطبيب تغيير الذيل بذيل الثعلب، لأن ذيل الفار لم يناسبه. قام الطبيب بإجراء التغيير المطلوب، وخرج الأرنب مزهوًا بديل الثعلب الجميل. بدأ الأرنب يمارس نشاطه، وعندما عبر على أرض طينية امتلأ الذيل بالطين وأصبح ثقيلًا، ولم يقو على الحركة!! فعاد الأرنب إلى المختبر غاضبًا، وطلب من الطبيب استبدال الذيل بذيل ثالث ثم رابع حتى عاشر ذيل وفى كل مرة كانت تظهر مشكلة من المشاكل لأن الذيل الذى كان يتوهم أنه سيُجّمله لم يكن يناسبه!! وفى نهاية القصة توجه الأرنب إلى المختبر وقال للطبيب: «ليس هناك أفضل من ديل الأرنب». وهنا اقتنع الأرنب بأن أفضل ذيل يناسبه هو «ديل الأرنب». كم كانت لتلك القصة الأثر الطيب فى نفسى، ولم أتذمر على عطايا الله لى، فقد أعطانى ما يناسبنى من المواهب والإمكانيات، فلقد آثرت أن أحيا فى فقر اختيارى، ولا أتذمر على عطايا الله لى.
والفقر الاختيارى منهج ينتهجه أناس مخلصون وليسوا من «بائعى الكلام والخطب البراقة والوجاهة الكاذبة والابتسامات الغاشة». جاء فى كتاب «بستان الرهبان» أو «فردوس الآباء» للأسقف «بلاديوس» أن طلب أحد الرهبان من أحد شيوخ البرية كلمة منفعة، فخلع الشيخ رداءه، ومنطق به حقويه، ورفع يديه، وقال: «جدير بالراهب أن يتعرى من جميع ممتلكات هذا العالم، كما تعريت الآن من ردائى، وأن يقف متحفزًا منتصب القامة، ضد أفكاره، كما لو كان من أبطال الرياضة البدنية الأشداء، والرياضى حين يهم بالصراع يقف عاريًا، وكذلك الحال عندما يمسحونه بالزيت، لا بد أن يتعرى، وهو يتعلم ممن يدربه كيف يجاهد، ويلقى بالتراب فى وجه العدو عندما يتقدم منه، حتى يستطيع الإيقاع به دون عناء، فعليك أيها الراهب أن تتخذ فى جهادك من أبطال الرياضة قدوة تحتذيها، والله هو الذى يريك كيف تجاهد، فهو الذى يهب النصرة لنا، وهو الذى يقهر عدونا، بينما نحن الذين نجاهد، وجهادنا ضد العدو الشرير، والتراب الذى نقذف به فى وجهه هو شهوات هذا العالم ومغرياته، حين نرفضها وندوسها بالأقدام، وما دمت قد فطنت لخداع إبليس، فستقف أمامه مستبسلًا، تقاومه وأنت عارٍ من رذائل العالم، متحرر من كل ما يشدك إليه، وبذلك تتيسر لك هزيمته، ذلك لأن العقل إذ تثقل بهموم هذا العالم، عجز عن تقبل وصايا الله الصالحة». أقول هذا – بكل صراحة ووضوح – للرهبان والقسوس والأساقفة والمطارنة والبطريرك، اسلكوا كما يحق للرسالة التى استأمنكم الله عليها، ونحن نعلم أن كثيرًا منهم قد وصلوا إلى هذه الدرجة بالغش والخداع والتملق والكذب والتزوير، والله شاهد على كل شىء، فلا تخلطوا بين الدين والسياسة والغناء والتمثيل والحفلات والغناء، ولا تنخرطوا فى مظاهر العالم الكاذبة، ولا تحولوا بيوت العبادة إلى «مغارة لصوص»، كما قال السيد المسيح: «بيتى بيت الصلاة يُدعى وأنتم جعلتموه مغارة للصوص»، فعلًا مغارة لصوص بعد الذى حدث يوم ٤ نوفمبر ٢٠١٢!!.
أقول ذلك للإنسان، الذى ليست له أى مواهب ويتطلع إلى كرسى رئاسة ناد من الأندية الرياضية!! أو كرسى رئاسة جامعة أو عمادة كلية أو رئاسة قسم أو رئاسة دينية!! رحم الله إنسانًا عرف قدر نفسه. أيضًا الإنسان الذى يتطلع إلى مناصب إدارية أكبر، سواء فى المصالح الحكومية أو الجامعية، وهو لا يملك من الإمكانيات والمواهب التى تؤهله إلى ذلك، فيسلك بلا لياقة أو تدبير حسن، فيكون سببًا للعار فى مكان عمله، ويخلط بين الأمور، لأنه بلا تمييز. أيضًا فى مجال الكنيسة، قوانين الكنيسة تمنع انتقال أسقف من مكان إلى آخر، وحتى لو القوانين لم تمنع، فإنه يجب على الإنسان الذى تكرس لخدمة الله ألا يشتهى منصبًا أعلى، بل عليه أن يشتهى خدمة شعبه بإخلاص. لكن ما حدث فى اجتماع مجمع الأساقفة فى ٢٠ فبراير ٢٠١٤ والذى وافق فيه أعضاء المجمع على ترشح الأساقفة للكرسى البابوى!! فانطبق عليهم القول: «لقد أعطى من لا يملك وعدًا لمن لا يستحق»، مخالفين بذلك تعاليم السيد المسيح: «من أراد أن يكون فيكم عظيمًا فليكن خادمًا، ومن أراد أن يكون أولًا فليكن آخر الكل». إلى نفسى أولًا وكل هؤلاء وأولئك أهدى لهم قصة «ديل الأرنب». ومن له أذنان للسمع فليسمع ومن له عقل ليميز الأمور فليفهم.