رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

اللغة لا تعرف الحياد


لا تعرف اللغة الحياد، وهى مهما بدت بريئة تقف على مسافة واحدة من كل الأطراف إلا أنها منحازة، وهى دومًا تعكس موقفًا من ظواهر الحياة وحكمًا عليها. وقد يؤدى مجرد ترتيب غير دقيق للكلمات إلى أزمة كبرى، كما حدث عندما صدر قرار بتأميم الصحف المصرية فى 24 مايو 1960، ويقال إن القرار جاء بعد مصرع اللص الشهير محمود سليمان فى أبريل 1960، عندما نشرت جريدة الأخبار النبأ بالبنط العريض، وكتبت فى سطر أول: «مصرع السفاح»، وفى السطر الثانى «عبدالناصر فى باكستان»!
بدت العبارة: «مصرع السفاح عبدالناصر فى باكستان»! لكن عبدالناصر برر التأميم بعيدًا عن زلة اللغة بأن الصحافة لا تقوم بدورها المنشود، وقال فى ذلك: «بلدنا مش النادى الأهلى، ولا نادى الزمالك، ولا الجزيرة ولا سهرات الليل.. بلدنا مش فلانة اتجوزت، وفلانة اتطلقت، مصر هى كفر البطيخ، والناس اللى بيجمعوا الأرز طول النهار عشان يعيشوا».
فى حينه كتب محمد حسنين هيكل مقالًا بعنوان «حرية الرأى فى الصحافة المصرية» أيد فيه قرار التأميم وشن هجومًا كاسحًا على الصحافة، وبالرغم من ذلك فإن البعض يعتقد أن عدم الحذر فى التعامل مع اللغة كان وراء التأميم. مثال آخر مختلف تمامًا عما تقتضيه اللغة من دقة فى التعامل معها إذ تروى «آنا جريجورفنا» زوجة الكاتب العظيم دوستويفسكى، أن الكاتب فى لقائها الأول به طلب منها أن تجلس إلى مكتبه وراح يقرأ عليها بضعة سطور من مجلة «البشير الروسى».. ثم طلب منها أن تنقل ما كتبته اختزالًا إلى اللغة العادية، وتقول: «كنت أكتب بسرعة وفاتنى أن أضع نقاطًا بين عبارتين».
وكان من الواضح أننى أسقطت نقطة واحدة فقط. لكن دوستويفسكى استاء بشدة من إسقاط النقطة، وظل يكرر عدة مرات «هل هذا ممكن؟ هل هذا ممكن؟»، إلى هذا الحد تكون نقطة واحدة مهمة. وقد يبدو لنا أن اللغة محايدة، على الأقل فى مجال مثل أخبار الجريمة والعلوم، لأنها لا تنقل سوى ما جرى وأين وكيف. وعلى سبيل المثال فقد نشرت بعض الصحف خبر رحلة «يورى جاجارين» أول رائد فضاء بعنوان «لماذا أسلم يورى جاجارين عندما صعد إلى الفضاء؟»! وبذلك نقلت اللغة ضمنًا أنه لا يجوز لأىّ انتصار علمى أن يقع خارج دائرة الدين الإسلامى.
وإذا كانت اللغة لا تعرف الحياد فى الأخبار العلمية، فإنها أيضًا لا تعرف الحياد حتى فى أخبار الجرائم، وتتشبع أصغر التفاصيل بموقف ونظرة وحكم اجتماعى. انظر مثلًا الجملة الشائعة عند نقل أخبار حوادث الاغتصاب، وهى جملة طويلة متكررة: «أوقعها المحتال فى شباك هواه وفقدت أعز ما تملك». فى تلك الجملة وحدها يبرز ليس فقط موقف محدد، بل منظومة فكرية متكاملة، لأنها تحتوى على عدة مفاهيم مركبة، وبداية فإن الشاب أو الرجل هنا «محتال»، وهو الذى يوقع الفتاة فى شباكه من دون أدنى مسئولية عليها، وكأنها سمكة بريئة! أما الأشد إثارة للدهشة فهو تعبير أن الفتاة «فقدت أعز ما تملك»، ومفهوم طبعًا ما هو ذلك «الأعز».
ولغة كهذه تعكس تصورًا محددًا عن أهم شىء فى المرأة. ليس القلب، ولا العقل، ولا الضمير، لأننا عندما تجن فتاة لا نكتب إنها فقدت «أعز ما تملك»، وعندما تمسى امرأة قاسية القلب لا نقول إنها «فقدت أعز ما تملك». هكذا تكشف اللغة كل مرة عن انحيازها لما تتصوره صحيحًا. وعند نشر خبر عن ضبط شبكة دعارة فإن اللغة تشير بوضوح إلى وجود «ساقطات» ثم إلى «راغب متعة»، وبهذه اللغة تمسى المرأة «ساقطة» والرجل مجرد «راغب» وليس أنه ضبط متلبسًا.
اللغة موقف، لا يعرف الحياد، ويتبين ذلك بوضوح عند نشر مختلف الصحف- كل حسب موقفها- الأنباء عن «سقوط قتلى»، أو «شهداء» فى معارك ضد الإرهاب، وفارق كبير بين «قتلى» و«شهداء»، هو الفارق بين موقف وآخر، وبين انحياز وآخر، وبين فكرة وأخرى. اللغة لا تعرف الحياد، واعلم أن اللغة هى أنت، وأنك عندما تكتب أو تتكلم فأنت تتخذ موقفًا، قد يكون ترتيب الجمل فيه فارقًا، وقد يكون إسقاط النقطة فيه شيئًا يدعو للصِّياح مرارًا: «هل هذا ممكن؟! هل هذا ممكن؟!».