رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

يونيو بين الهزيمة والنصر «1»


«يونيو» أول الصيف وبدء الحصاد، نسَبَه الأقدمون للربة «جونو» ربة الزواج وزوجة «جيوبتر» كبير أرباب الرومان.
يتأكد فيه سطوع الشمس واستقرارها فلكيًا ببرج الجوزاء حيث «كاستور» و«بولوكس»، التوأم غير الشقيق فى الميثولوجيتين اليونانية والإغريقية، فأمهما واحدة هى: «ليدا»، وأحدهما والده «زيوس» والآخر والده ملك إسبرطة، بعد مقتل «كاستور» طلب «بولوكس» من والده «زيوس» أن يتركه يخلّد معه، ثم تحولا بعد هذا إلى توأم تم تقديسهما بعد ذلك كرعاة للبحارين، وبذلك يكون «بولوكس» قد أفاد أخاه وكان له أنفع أخ كما كان موسى لهارون.
لا يمضى يونيو دون أن تدخل الشمس برج السرطان، أول الأبراج المائية، برج الأنوثة، والخصوبة، والليل حيث يتحكم القمر فى صفات التقلّب والرقّة والمزاجية، وتعلو قيمة العاطفة والأحاسيس والمشاعر والأمومة.
يرتبط «يونيو» فى الوجدان الشخصى ببداية الإجازة الدراسية، لكنه أيضًا يمنحنا غصّة لم نستطع رغم السنوات أن نزيل شوائبها، إنها الخامس من يونيو 1967.. ولكن هل نحن محقون فى عدم تجاوز الاختبار، هزيمة الخامس من يونيو؟ تمركزنا كثيرًا حول هذا اليوم فى حين أن الكون والحياة قد تجاوزاه، ولم يمضِ يونيو حتى استطاع المهزومون أن ينتفضوا من مرقدهم ليقدموا صورة أذهلت العالم.
يونيو شهر مصرى بامتياز، فيه من ملامحنا، من روحنا التى لا تنهزم وإن سقط البدن أو اختل توازنه.
لذا لا يمضى يونيو فى أى مرة دون أن يصلح المصريون فيه أخطاءهم، وينتفضوا كما العنقاء من رمادها من سباتها، من انكسارها، فلم يكد تمر خمسة أيام على هزيمة يونيو حتى أعلنت القيادة المصرية أنه «لن يُسمح بارتداد أى فرد أو أى معدة من خطوطنا الدفاعية الحالية، ولن يصدر من القائد العام أو أى قائد أمر بالارتداد، وأن نموت جميعًا فى مواقعنا الدفاعية أشرف لنا من وصمنا بالعار، ووصم الشرف العسكرى الذى نتحلى به».
وكان هذا الأمر تصحيحًا للعرف السائد منذ عام 1956 بارتداد الجيش، على أن تتولى السياسة تصحيح الأوضاع.
وبإمكانيات لا تزيد على 100 دبابة و150 مدفعًا، سارعت القوات المسلحة المصرية على امتداد الجبهة بتنظيم دفاعاتها، ونجحت فى أول يوليو فى هزيمة الإسرائيليين فى معركة «رأس العش»، ما أثار مشاعر المقاتلين على طول خط الجبهة حمية وحماسًا واستعدادًا للمواجهة المنتظرة.. وكانت هذه المعركة الشرارة الأولى فى أطول الحروب بين العرب وإسرائيل، حرب الاستنزاف، وهى أول صراع مسلح تضطر إسرائيل فيه إلى الاحتفاظ بنسبة تعبئة عالية ولمدة طويلة، وهو ما ترك آثاره السلبية على معنويات الشعب الإسرائيلى واقتصاد الدولة الصهيونية.
وقد نشرت المجلة العسكرية لجيش الدفاع الإسرائيلى أن القوات الإسرائيلية فقدت خلال حرب الاستنزاف أربعين طيارًا و827 فردًا فى القوات البرية، و3141 ما بين جريح وأسير.. وفى المجال الاقتصادى زاد حجم الإنفاق العسكرى بما مقداره 300 فى المائة، تحمّله أفراد الشعب الإسرائيلى، حيث بلغ نصيب الفرد 417 دولارًا فى عام 1970، بينما كان 168 دولارًا فى عام 1966.
أما عن الجانب المصرى، فلم يكن يهتم إلا بالتدريب الجاد الشاق للوصول إلى أعلى درجات الكفاءة القتالية انتظارًا للحظة الحسم، وهو ما جعل الخبراء يؤكدون أنه لولا حرب الاستنزاف لاستمر الحال على ما هو عليه، ولكن القيادة العامة للقوات المسلحة المصرية استطاعت من خلال عمليات الاستنزاف التعرف على كل قدرات وإمكانيات العدو فى مختلف الأسلحة، سواء الجوية أو البرية أو البحرية، والمدرعات والمدفعية ووسائل الدفاع الجوى، وهو ما مكّن القوات المصرية من تطوير أداء ومعدلات السلاح الذى تملكه.
لقد استمرت حرب الاستنزاف أكثر من ألف يوم، وحُسمت نتيجتها فى الثلاثين من يونيو 1970، ليُحسم الصراع عندما احتلت بعض كتائب الصواريخ المصرية مواقعها فى مسرح العمليات، وبدأ عقب ذلك تساقط الطائرات الإسرائيلية، فيما عرف بـ«أسبوع تساقط الفانتوم»، ليصاب الطيران الإسرائيلى بأول نكسة فى تاريخه أثرت على أسس نظرية الأمن الإسرائيلى بالكامل.. وكان هذا اليوم بمثابة إعلان لخسارة إسرائيل جهودها فى معارك حرب الاستنزاف، التى ركزت خلالها على عدم إنشاء أى مواقع صواريخ مصرية فى مسرح العمليات.
لكنهم الرجال الذين لا تقهرهم معركة، ويونيو الذى لا يمضى دون أن يمنحنا الفرصة لتصحيح أخطائنا.