رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

جبل الحكايات

جريدة الدستور

تسكن فى بحر الشمال، حيث الموج يغرد تحت أضواء المدينة. حالمة كطفلة رغم أن عمرها مائة عام.. تموت بين يديها كل يوم حكاية جديدة، رغم لمّة الحكايات الممطوطة والمطولة، ولكنها أبدًا لم يخدعها منظر الشروق، ورغم مساحة الخلاء الممتد عبر السماء لفترة تتراوح فيها الأيام بين الألم والحنين، ظلت تبكى أميرها المسحور النابض فى ظل أشجار بعيدة عكستها أمواج البحر عندما قامت جنية مزعومة بحقنه بمادة العشق، ليصبح مجرد ظل لشجرة تميل بجذعها على وادى الأشجار.
ومع مرور الأيام أصبحت الحكمة المتداولة بين لسانها أن لكل حكاية نهاية إلا حكايتها عندما أصبح ظله فجأة يتمرد ويحاول أن يأخذ حيزًا له من الفراغ ماتت دمعة بين عينيها وهى تترسم ظله المجاهد للخروج من المصيدة. كان انعكاس الظل على وجهها له بُعد تاريخى. حيث قال القائلون: إنها منذ غادرت منزلها منذ أعوام واختارت أن تستقر بجوار شط المياه تفصل العذب منه بالمالح بكفى يدها، كان يكفى الأطفال أن يجتمعوا حولها، ويطلبوا المياه. البحر مالح.. والأطفال رغم صغر سنهم يعلمون، ولكنها تمد يدها فى البحر تغرف بكفيها وتهمس للماء بكلمات لا نعرفها، وتبدأ الهمسات تتزايد حولها، والماء لا ينضب من بين كفيها، بعد مدة وبزيادة عدد الأطفال الطالبين للماء، بدأ جبل الملح يتكوم حولها.. وأخذ كل يوم فى الازدياد.. حتى أصبحت يومًا تجد أن الجبل تخطى حدود العقل، وأصبح النظر إليه والوصول إلى نهايته مستحيلًا. ومنع الظل المفروش لحبيبها أن يتمدد ليصل إليها، يومها فقط، قررت أن توقف عملية السقى. أطفال البحر كانوا يهرعون إليها وفى عيونهم الأمل بشربة ماء. فردت يدها أمامها وأرتهم ما بين كفيها، ملح.. ملح.. ملح. الأطفال يهتفون: ملح.. الجدة العجوز يديها أصبحت تفرز الملح.
ظن أعيان بحر الشمال أن الأطفال يهرفون، وكلامهم مجرد هلاوس طفولية حمقاء.. قرروا أن يروا بأنفسهم. ماتت الدموع فى العيون وهم يرون يد الجدة مملوءة بالملح. والجبل خلفها ممتد على امتداد البصر، ظل حبيبها لم يعد له وجود. الجدة، الصغار والكبار.. الجدة، والظل، وجبل الحكايات، والشجرة المائلة على بحر الشمال مخنوقة. حاولوا أن يسقوا الجدة التى كفت عن الحكايات، ولكن بمجرد أن يصل الماء إلى شفتيها، تتشققان ويهبط الماء بين أيديهم. لا سبيل سوى أن تموت الجدة، ويكف أطفال الشمال عن البحر، يكتفون بحرقة شمس الظهيرة أمام الدور وبناء سور عال يمنع دخولهم الشاطئ، وتظل الجدة وحدها مع ظل حبيبها. ربما يومًا.. يومًا ما تعود المياه كما كانت بين يديها.

الظل المجاهد للوصول من بحر الشمال راح يتمدد على طول جبل الملح، ولكن الجبل نفسه كان يرتفع كل يوم مئات الأمتار، حيث أصبحت الجدة لا تكف عن البكاء. والأطفال يتساقطون، ويتساقطون. صباحًا كانوا يرحلون.. أهل بحر الشمال يرحلون. الماء العذب لم يعد له وجود، والمالح يزداد ملوحة.. وظل يتسلق الجبل، وصباحًا أصبح المكان على خواء. وانهار جبل الملح على جدة تبكى. وآخر المغادرين أقسموا على أنهم رأوا ظلًا يحاول أن يحفر بيديها جبلًا من الملح. ويحفر، ويحفر.. ولكن يديه كانتا مجرد انعكاس لخيال ظل.. تخرج بفراغ وتعود بفراغ. وجبل الملح لا يقل.. ورغم مرور الزمن، فما زالت الأسطورة متداولة هناك خلف جبل الملح المنهار ظل لشبح يحاول الوصول إلى حبيبته المختفية تحت جبل الحكايات.