رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

قماشتى المفضلة



هو عنوان الفيلم الأول لصانعته السورية الفرنسية «جايا جيجى»، الذى أبهر غالبية من شاهدوه فى عرضه الأول فى مهرجان كان السينمائى الدولى.. وتظهر رؤية بل وشخصية المخرجة الثائرة المتمردة جليًا فى فيلمها ولكن دون ضجيج ودون أى شعارات أو أصوات زاعقة، بل ودون إشارات مباشرة أو صريحة.. فالأحداث فى سوريا كانت مجرد غطاء وخلفية لأحداث الفيلم الذى لا يمكن اعتباره عملًا سياسيًا.. فمن قاع المجتمع وأزمات أبطال العمل النفسية والمجتمعية يظهر رأى مخرجة العمل فيما حدث فى سوريا.
تبدأ أحداث الفيلم مع بدايات الثورة السورية التى اندلعت فى درعا كخلفية للأحداث التى جسدت حياة أسرة تلعب النساء فيها أدوار البطولة فى فيلم نسوى بامتياز.. وفى نفس الوقت لا علاقة له بالنسوية بمعناها الحرفى، فالفيلم معنىٌ بالإنسان فى المطلق وأزماته الراهنة والوجودية.
٣ فتيات وأمهن التى تلوم أباهن على غيابه القصرى وما آل إليه حالهم، وكأنه المسئول عن ذنوب الأسرة، بل وذنوب المجتمع كله وما يتكبده من أزمات مادية طاحنة.. والابنة الكبرى، «بطلة العمل الرئيسية»، هى الممثلة الرائعة والاستثنائية «منال عيسى»، ذات الوجه الذى لا يمكن أن تخطئه أو تغفله أو تتجاهله أو تلوح ببصرك عنه.
كانت «منال عيسى»، أو «نهلة»، فى فيلم «قماشتى المفضلة»، هى تلك الفتاة القوية الجريئة الجامحة التى تفضح نظرات عينيها الثاقبة جميع من حولها.. كانت عيونها طوال الفيلم كالرادار تعرى الآخرين وتراهم من الداخل، بل وتكشفهم أمام ذواتهم وكأنها أشعة الـMRI المعروفة طبيًا بقدرتها على الوصول للخلية وتعرية العظام من الداخل والوصول للب الأشياء والحقائق المطلقة.. تعانى «نهلة» من حياتها فى ذلك المجتمع الملىء بالكذب والتواطؤ والانبطاح والرضا دومًا بالمقسوم وقبول ما لا يطاق.. تحاملت على نفسها كبائعة للملابس تواجه زبائن يريدون فرض سطوتهم وذوقهم على ذويهم لمجرد أنهم يدفعون لهم ثمن ما يلبسون، وهى التى تتمرد وترفض دومًا ما يفرض عليها وتحتقر فنون المداراة وترفض الزيف.
ثم ارتضت مقابلة الآتى من بلاد المهجر للزواج من فتاة من بلده الأم لينجب أطفالًا ويحيا حياة تقليدية، كما وصفتها «نهلة»، التى تحلم وترى أنه لزامًا عليها أن تنهل من الحياة دون أن تكتفى أو تتوقف.. تثور «نهلة» على الخطيب وتعريّه أمام ذاته، فيقع فى أسر قوتها ونظرات عينيها الثاقبة.. فيؤثر الزواج من شقيقتها «ميريام» لأنها الأقدر على التكيف مع المحيط دون مقاومة ودون مناهدة.. وتظهر «نهلة» طوال الفيلم وهى تحلم بفارس أحلامها وبالحياة الوردية المخملية مع رجل أشقر وسيم لا يملها أو يخذلها أو يتركها.. وتطارد «نهلة» حلمها حتى وصلت به لبيت جارتها التى تتيح بيتها للتسرية على زبائنها بتقديم فتياتها لمرتادى البيت، وتكتشف «نهلة» بفراستها وعينها المراقبة دومًا ما يحدث فى بيت الجارة، فتتودد لها وتطلب منها غرفة فى البيت كى تقابل فيها حبيب أحلامها الذى لم يجئ، وتظل «نهلة» فى انتظار من لا يجىء.. وفى أحد الأيام جاء للبيت زائر يتردد دومًا على المكان، وكان الزائر، الضابط فى الجيش، يختلس لنفسه سويعات فى هذا البيت ويقوم بدور السيد على الفتيات اللاتى يلتقيهن.. فيأمر كل فتاة تكون معه بأن تروى له قصة سيدنا يوسف، كى تطمئن روحه التى تتقمص تلك الحكاية التراثية الخالدة، ونهج وسيرة النبى النبيل الذى رفض الغواية وكانت له أيضًا أحلامه التى تتحقق دومًا آملًا فى أن تمر السنوات السبع العجاف التى تعيشها البلاد ثم تنتهى وتنقشع ويظل هو الصديق الذى لم يسقط فى بئر الخيانة والغواية.. والغوايات أنواع لا تقتصر فقط على النساء.. فالحرب غواية والدم غواية والنصر غواية والقوة والسلاح أيضًا غواية.. والضابط فى الفيلم يمتلك الكثير من غالبية ما سبق بل ويقدر على الكثير أيضًا، لكنه يحلم ويريد تصديق حلمه.. يحلم ويعتقد أنه قاوم وحارب ولم يسقط وانتصر ولم يهزم ولم تهزمه الغواية.. غواية الحرب وغواية الدم قبل غواية النساء.
حتى جاءت لحظة لقائه «نهلة».. تلك البطلة المتمردة التى رفضت أن تحكى له ما يريد هو دومًا سماعه.. وحكت وروت له قصته الحقيقية.. قصته الواقعية الصادمة، وأنه ليس الصديق الأمين، فقد غوى وضعف ووقع فى الخطيئة وخان.
وبالتالى ليس هو من يظن نفسه أو ما يريد لنفسه أن يكون.. فلقد أسمعته «نهلة»، دون غيرها، ما لا يطيق سماعه، ليفيق على حقيقته القاسية.
تلك الحقيقة التى يعيشها الكل مهما أنكروا ومهما ادّعوا عكس ذلك.. فشقيقة «نهلة» تنكر كراهيتها لمن ستتزوجه، هو بالنسبة لها الرجل المنتظر الذى سيخرجها من حياتها الحالية لحياة أكثر استقرارًا وأقل وطأة.. وشقيقة «نهلة» الصغرى لا تريد أن تكون الأنثى التى تنتظر الذكر، فصارت هى الذكر المكتفى بنفسه الذى لا يريد إدخال الذكور لحياته، مكتفيًا بذاته وبالسلحفاة التى تسرّى عنه أو عنها، وبالتالى تستغنى بها عمن حولها.
والعريس الذى لا يريد الاعتراف بولهه بـ«نهلة» رغم زواجه من شقيقتها ووقوعه فى بئر الخيانة مع «نهلة» حتى قبل أن يتزوج شقيقتها.
فالجميع يكذب على نفسه ويدعى الصدق أحيانًا والسعادة فى أغلب الأحيان، فى حين أن الكل مبتئس وخائف ولا يطيق حياته وإن ادّعى عكس ذلك.
وينتهى الفيلم بمشهد تظهر فيه «نهلة» وهى تقف على قمة جبل ومن تحتها كل البقية، وتطلق بنفسها وبيديها سراح قماشاتها المفضلة، التى طالما حلمت بارتدائها مع فارس الأحلام، وهى اليوم تمزقها وتقصها بنفسها بعد سنين من كبتها وتخزينها ليوم زفافها والتقائها الشاب الوسيم الذى سيحبها ولن يتركها.
أطلقت «نهلة» قصاصات قماشاتها المفضلة للريح.. تركتها للريح، وتخلت عنها فى نفس اللحظة التى تخلت فيها عن حلمها الوردى.. فلم تعد حبيسته ولا حبيسةً لقماشتها المفضلة، بل ولم تعد القماشة تصلح لها.. وتخلى كل طرف عن الآخر.. هى تخلت عن كل ما كانت تريد، وتخلت عن الأحلام، ولم تعد تريد الحلم، فقط الواقع والحقيقة القاسية التى تعيشها ولا تعرف متى ستنتهى وما ستؤول إليه الأحوال، فى ظل مقدمات وإرهاصات الثورة التى اندلعت وعايشنا جميعًا سنينها السبع العجاف.