رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

على رءوس الأشهاد


أنا ممن يؤمنون بأن علاقة العبد بربه، صندوق مُغلق، لا يعلم ما بداخله إلا خالقه، لذا فلا أتألى على ما هو لله خالصًا، ولا أحكم بما هو له منفردًا.. لكن إذا كان حدث ما يحمل وجهًا سياسيًا، ويريد البوم أن يعتلى جذوع أشجارهم اليابسة، فى خريف جماعتهم المنقضى عمرها لتنعق وتندب حظها، مستغلة ذلك الحدث التى لم تصنعه إلا مشيئة الخالق، ولم يجر به إلا كتاب الموت الذى هو الحقيقة المطلقة فى هذا الكون. فمن حقنا أن نقول ونزيد فى القول الذى تفرضه أفاعيل السياسة، بعيدًا عن قضية الموت.
بالرغم من الموت العلنى لمحمد مرسى العياط، ذلك الذى حدث فى قاعة المحكمة وعلى رءوس الأشهاد، وكأن الله قد ساق قدره على تلك الشاكلة، ليبرئ ساحة وزارة الداخلية والنظام السياسى فى بلدنا، من تهمة كانت جاهزة فيما لو جرى قدر الموت بطبيعته داخل محبس مرسى، الذى كان يُحاكم فى عدة قضايا لعل أهمها الخيانة، وإفشاء أسرار الدولة التى كان يُفترض أنه مُؤتمن عليها.. أقول بالرغم من ذلك الموت العلنى، فإننى لن أتفاجأ بتلك الثعابين التى خرجت من جحورها، تملأ مواقع التواصل الاجتماعى صياحًا وضجيجًا، عن ذلك «الشهيد» الذى مات نتيجة الإهمال الطبى فى محبسه، وراح رفقاء الأمس ينعون الفقيد الذى خسروه، بعد أن كانت أيامه فى رئاسة الدولة المصرية، فرصة سانحة لهم، كان من الممكن أن تحقق أحلامهم فى أرض مصرية ممزقة، وأشلاء دولة كانت يومًا عريقة قوية، ذهبت صلابة شعبها ويقظة جيشها وانتباهة شرطتها، بأضغاث الأحلام التى رأوا فيها أن جماعة الإخوان الإرهابية، هى الأداة الأنسب لتحقيق خطة التقسيم والتشرذم فى أرض تعهد الله بحفظها وأمنها، وهم لا يعلمون أو قل وهم لا يعقلون.
الذين يتباكون على فقيدهم الراحل بأنه مات بطيئًا، كما كان الحال مع ياسر عرفات، نسوا أنه لم يكن زعيمًا صاحب قضية، بل محض أداة فى يد جماعة خسيسة، استغلت ظرفًا تاريخيًا، وصلت إلى سدة الحكم فى بلد لم يكن لها، ولم تكن أهلًا له ولا بقدره، ولذا كان سقوطها مدويًا، بانتفاضة شعب عليهم، بعد أن سقطت ورقة التوت عن سوءاتهم، وانفضح أمرهم بعد أن عرف ذلك الشعب أن تلك الجماعة لم تكن منذ نشأتها صاحبة دين، بقدر ما أن أشياعها طلاب دنيا، يستغلون عباءة الدين وسيلة لغاياتهم، ظنًا منهم أن الدين، فعلًا هو أفيون الشعوب، دون أن يدركوا أنهم بإزاء شعب يحتاج الوقت لكى يفهم، وعندما يتيقن، يصبح كالطوفان الذى لا يبقى ولا يذر.. ولم يكن عزل مرسى بإرادة شعبية خالصة، ومحاكمته فى قضايا مُخلة بشرف الإنسانية إلا صفعة على وجوه جماعة الداخل والخارج، ضاعت معها الأحلام العريضة فى حكم أرض الكنانة، لعلها تكون يومًا، المنطلق لأحلام أردوغان فى إعادة مجد الدولة العثمانية، الذى لم يلبث أن دعا أعوانه من أذناب الجماعة إلى الحديث بلسان الشرعية المفقودة فى مصر، بسقوط مرسى، وهى التكئة التى أسقطها قدر الله عنهم بموت مرسى، وكأنما الله ما زال يُخاطب الناس، ويبث فى أفهامهم، أن أرض الكنانة التى تجلى فيها سبحانه، هى صنعته ومشيئته، وهو من تعهد بحفظها، وستستمر إلى يوم القيامة تحت جناح الرحمن، يحفظها ويحميها. نعود إلى حديث الإهمال الطبى لمرسى وكل من كان على شاكلته.. وما سأقوله سيحاسبنى عليه الخالق، ولست من المحسوبين على اتجاه بعينه، بل هى شهادة مواطن يعرف الحقيقة التى لم يروها نظام ولم يتبنها محسوبون عليه كما يظنون.. فمعلوماتى اليقينية، من داخل مصلحة السجون، التى لا يرقى الشك إليها؛ لأنها شهادة ومن يكتمها؛ فإنه آثم قلبه.. لقد كان الحرص على حياة مرسى وسلامته الشخصية، من كل المسئولين فى وزارة الداخلية، يفوق فى إجراءاتها الخيال، لأنهم مسئولون عنه أمام الله أولًا وأمام الضمير الإنسانى ثانيًا، وفوق كل ذلك، يعلمون أن هناك متربصين بأى مكروه يقع له، يجعلون منه مندبة، يشبعون فيها لطمًا، وهو ذات ما يحاول هؤلاء المتنطعون فعله الآن.. انعكس الحرص على مرسى، فى سلامة إقامته على ذمة تحقيقات النيابة معه ومحاكمته، وفى تنقلاته، من وإلى أماكن المحاكمات، فى رعايته الطبية، وتوفير الأدوية اللازمة له.. حتى طعامه الذى كان يأتيه حسب رغبته، ومن كان يعرف مرسى، فإنه يعلم أنه أكُول، ويحب التوسع فى طعامه، واحتوائه على ما لذ وطاب من أصناف الطيور واللحوم والأسماك. إن رجلًا ظل تحت المحاكمات طيلة خمس سنوات، لم تنله شائبة، حرى أن يكون عنوانًا على أن حقوق الإنسان فى سجون مصر مصونة، ولا داعى للمزايدة، وقد كان من الممكن أن يحدث لمرسى ما يظنه هؤلاء، منذ الأيام الأولى لعزله، بدلًا من الانتظار عليه طوال هذه المدة.. لكنها النفوس الرخيصة؛ المشحونة بروح المؤامرة؛ الملوثة أياديها بالدم، لا ترى فى الدنيا نقاءً، ولا فى النفوس الصالحة مخافة من الله.. ولذا فإنهم يظنون بمصر كل الظنون، لكن الله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.. لا نمارس شماتة، لا قدر الله. فليس فى الموت شماتة، ولكنها عبرة اليقين الذى لا بد من وقوعه على كل حى.. لأن الله سيسألنا عما نفعل، ونحن مساءلون عما نكتب.. فليرحمنا الرحمن.. حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين.