رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أصوات جانبية

جريدة الدستور



اتصلت بصديقى لأتفق معه على الخروج للعب الكرة كعادتنا كل خميس، تركنى الصديق معلقًا على سماعة الهاتف الأرضى وذهب لاستئذان أمه التى كانت فى الغالب تجلس معه فى نفس الغرفة، حيث تمكنت من سماع صوتها بوضوح وهى تجيبه:
- ماشى روح العب معاه، ولكن تعالى قبل السادسة، كى تتلقى العزا فى أبيك.
سألته مرتبكًا حين شعرت بحركته بينما يعود إلى السماعة من جديد:
- هو أبوك مات؟
- لم يمت بعد، أمى تقول إنه سيموت بعد ساعتين، نكون خلصنا الماتش، وحين أعود فى السادسة سيكون لدىّ وقتٌ كافٍ كى أستحم وأبدل ملابس اللعب، وتكون أمى قد دفنته مع بقية أقاربنا الذين سأتلقى منهم العزاء فى السادسة.
أُغلق الخط مندهشًا من إجابته، ولا أخرج من دهشتى إلا على صوت أمى الذى يظهر حين تطفئ مكنستها الكهربائية بخبطة من إحدى قدميها كى تطلب منى ألا أنسى إحضار العيش الفينو معى عند العودة.
قبل أن تعيد أمى تشغيل المكنسة من جديد يداهمنى صوت أبى المتألم فى الغرفة المجاورة.. أدخل إليه، أتفحصه، أشعر كأننى لم أره منذ مدةٍ طويلة.
- مالك يا بابا؟
- تعبان، مش قادر آخد نفسى.
أشعر بصدره وهو يلهث بعنف فى محاولة منه لسحب أكبر قدر ممكن من الأوكسجين دون جدوى.
أهرع إلى أمى، أصرخ بنبرةٍ عالية كى أتغلب على صوت المكنسة، أخبرها بأن أبى مريض، تهز رأسها بلا أى اندهاش، وكأنها تعلم الأمر، لم ترحب باقتراحى للاتصال بجارنا الطبيب، ولا حتى بإخبار إخوتى المتزوجين كى يأتوا لزيارته.
أتصل بإخوتى غصبًا عنها، تجيبنى أختى الكبيرة بفتور حين أخبرها بمرض أبى وأشكو لها من تعنت أمى بخصوص الطبيب، وتطلب منى ألا أقلق.
يردد إخوتى جملًا متشابهة وكأنهم على اتفاق، ولكن لا تعلق فى أذنى من كلماتهم سوى جملة واحدة: طولة العمر ليك!
أترك الهاتف، وأعود ثانية إلى أمى، أتوسل إليها أن تتركنى أستدعى الطبيب.
تطفئ أمى المكنسة، وتنحيها جانبًا، وتربت على كتفى بطريقةٍ مبالغ فيها: صدقنى يا حبيبى مفيش فايدة، مش فاضل غير تلات أيام.
- متبشريش عليه، سبينى أجيب الدكتور وهياخد الدوا ويبقى كويس.
تصل صرخاتى وكلماتى لأبى فى غرفته، فيبدأ فعلًا فى التحسن، أدخل إليه وأحضنه، أطمئنه أن الطبيب فى الطريق، يحتضنى بشدة، ويربت على كتفى.
- إنت الوحيد اللى مصدقنى.
أخرج لأمى التى لم تكن قد انتهت من شفط الأتربة بعد.
- شوفتى بدأ يتحسن ونفسه انتظم.
- لا تصدق أوهامك يا حبيبى، لقد مررنا بهذا الأمر أكثر من مرة، وكل مرة لا تصدق أنه سيموت، وحين تفيق تكتشف أن أباك ميت بالفعل منذ أكثر من سبع سنوات. أحاول أن أهرب من كلمات أمى التى أشعر بأننى قد سمعتها من قبل، أذهب مجددًا إلى غرفة أبى، أحضنه، أتشبث به، ويتشبث بى، أحاول أن أتبادل معه أى حديث آخر بعيدًا عن أحاديث المرض والموت، ولكن أصواتنا تخرج كلها بلا أثر، ولا يُسمع أى صوت بعدها غير صوت المكنسة التى تجرها أمى.