رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الفاعل الأمين لا يخزى


الكنيسة القبطية الواعية تحتفل بأعيادها وتبتهج بأصوامها وتقدس مناسباتها المختلفة، طبقًا لتعاليم الكتاب المقدس وترتيب آباء الكنيسة الأولين. ومن بين الأصوام التى تمارسها بشغف صوم «الآباء الرسل» وهو- كما يقول الأب متى المسكين «1919- 2006» الأب الروحى لرهبان دير أنبا مقار العامر بوادى النطرون، فى نبذة صدرت عن دير القديس أنبا مقار عام 1979- من الأصوام التى تحمل معانى روحية غاية فى الأهمية بالنسبة للكنيسة. ورغم أنه ثابت فيها منذ العصر الرسولى كصوم يتعلق بوجودها ذاته وباستمرارها على مدى الزمان، فإنه صار أحيانًا، سواء فى الماضى أو فى الحاضر موضوع حوار ونقاش، وبسبب الجهل بمعناه الأصيل، وبسبب فقدان قيمته الروحية العملية فى الكنيسة، وهذا مما يؤسف له.
ثم يضيف الأب متى المسكين قائلًا: نجد أن صوم الرسل يتراوح فى مدتهما بين 15 يومًا و49 يومًا، وقد كثر النقاش والجدل بخصوص هذا الأمر!!، وطالب كثيرون بتحديد مدته وتقليلها!!، ولكن هذا كله بسبب ضعف التقوى والجهل بقيمة هذا الصوم وبمناسبته البديعة، سواء من جهة بدايته المرتبطة بحلول الروح القدس على جماعة التلاميذ فى يوم الخمسين «أى بعد القيامة بخمسين يومًا»، أو من جهة نهايته المرتبطة بالتعييد له فى ذكرى استشهاد الرسولين الكريمين بطرس وبولس.
وفى فترة هذا الصوم الذى كنا نستمتع به ونحن صغار، اعتادت الكنيسة القبطية الواعية أن تردد على مسامعنا ألحانًا كنسية بها رائحة التعب فى الخدمة. فمن بين ما تردده على مسامعنا: (الفاعل الأمين لا يخزى.. أجرته حتمًا خير الجزاء.. ومتى قُسّم النصيب أجزاء.. فقسمه حقًا هو الأوفر)، ومن خلال تلك الكلمات فرحت نفوسنا وتهللت وسعت بصدق نحو الخدمة الأمينة فى كل شىء، وأدركنا معنى التعب فى الخدمة. وأتذكر أننا فى الإسكندرية- طوال فترة صوم الآباء الرسل- كنا نستمتع بوجود البابا كيرلس السادس البطريرك 116 فى وسطنا، حيث الصلوات اليومية التى كان يرأسها بنفسه صباحًا ومساءً، ولم لا وهو أسقف الإسكندرية والمسئول عنها أمام الله وطبقًا لتعاليم الكنيسة؟، فلم يفكر فى يوم من الأيام أن يهرب من مسئوليته أو يسندها إلى آخر أو آخرين، بل يحضر إلى المدينة ويجلس مع أولاده ويصلى معهم ويرعاهم بالبر والتقوى. كما أن الكهنة الأتقياء بالإسكندرية فى فترة الستينيات والسبعينيات علمونا أننا فى فترة صوم الرسل نكرّس وقتنا للخدمة الصادقة الأمينة، فكنا نحيا تلك الفترة ونحن فى غاية الحب والاشتياق للتعب من أجل الخدمة، فكنا مجتهدين فى دراستنا ومجتهدين أيضًا فى خدمتنا، لكن من المؤسف أن نجد الآن من ينشر بيننا أفكارًا غريبة تدعو لتقنين فترة الصوم.. إنه بسبب ضعف التقوى!. صوم الرسل كان أول صوم تم فيه وبواسطته أول عمل للكرازة والتبشير- كما يقول الأب متى المسكين- فهو الصوم الذى وُلدت فيه الكنيسة وظهرت للوجود وتحدد شكلها فى أورشليم وخارجها، أى أن صوم الرسل كان، وسيظل أبدًا هو صوم الكرازة والخدمة والإرسالية، إذ ارتبط بحلول الروح القدس على جماعة التلاميذ ليبدأوا عملهم الكرازى فى أنحاء العالم، وقد جاء إلينا فى مصر القديس مرقس الذى صار أول الآباء البطاركة القانونيين. فاقتران الروح القدس مع صوم الرسل- كما يقول الأب متى المسكين- يكون فى الحقيقة صُلب الشهادة وقوتها، ويصّور أول صورة حية للكنيسة فى معناها ومبناها: كرازة وشهادة بالروح. إذًن- كما يقول الأب متى المسكين- فصوم الرسل حقيقة تاريخية تستمد قوتها وديمومتها من كيان الكنيسة القائم الآن، وليس ذلك فحسب، بل إن كيان الكنيسة نفسه يستمد بداية وجوده تاريخيًا وروحيًا من هذا الصوم عينه!، فالكنيسة كلها وفى كل العالم مديونة لصوم الرسل كيوبيل حى دائم، تُعيّد له على ممر الأجيال ونقطة انطلاق مضيئة تبدأ منها رحلتها لتجديد نشاطها وكرازتها كل عام. وصوم الرسل بهذا المعنى الروحى العميق يتطلب استجابة وعملًا كبيرًا ومجيدًا، سواء من الكنيسة الرسمية المُمثلة فى أساقفتها وكهنتها وشمامستها، أو من الكنيسة كشعب أراخنة وخدام ومبتدئين. أما بالنسبة للكنيسة- فكما يقول الأب متى المسكين- فهذا الصوم يتطلب أن تجتمع فيه الكنيسة على أعلى مستوى، وفى انسحاق الصوم صوم الخدمة والعطاء والبذل الرسولى، فتقدم أولًا حساب وكالتها عن سنة من الخدمة مضت، ثم تدرس فى نور منجزات الأجيال المضيئة وأعمال خدامها الرسوليين خطة عمل جديدة تتناسب مع واقع الكنيسة فى الداخل والخارج، إنما بروح تقليدها الذى لا يستمد قوة التخطيط إلا من شهادة الروح القدس وكلمة الإنجيل.
وهنا أقول إنه من المؤسف والمُحزن جدًا أن يجتمع أساقفة الكنيسة القبطية ليناقشوا من بين ما يناقشونه كيفية تقنين فترة صوم الرسل واختصار المدة!! هذا يدل على أن الكنيسة فقدت تقليدها الرسولى وتقاليدها، وبمرور الوقت سوف تختفى رويدًا رويدًا، كما حدث فى الكنيسة السريانية فى بلاد المهجر، قد اختصرت فترة صوم الميلاد من 40 يومًا إلى عشرة أيام فقط، وذلك بشهادة أحد كهنة الكنيسة السريانية بمدينة ديترويت وقت أن كنت أدرس بالخارج، وكنا نستأجر كنيسة سريانية للصلاة فيها، حتى إن كاهن الكنيسة السريانية قال لى بالحرف الواحد: (نحن نحييكم أيها الأقباط لمحافظتكم على تقاليد كنيستكم وأنتم فى بلاد المهجر). وهذه شهادة أعتز بها نحو كنيستى القبطية العريقة، كنيسة الشهداء.
فصوم الرسل- كما يقول الأب متى المسكين- بعد عيد حلول الروح القدس هو إذن بداية رحلة الكنيسة السنوية نحو كل مدينة وكل قرية وكل عزبة وكل بيت وكل كوخ وكل نفس، حيث تكون الكنيسة كلها ممتلئة بالروح مُفعمة بالقوة!. الكنيسة كلها فى هذا الصوم تتحرك بغيرة الحُب، الكنيسة كلها تشهد بوداعة الروح، الكنيسة كلها تخدم باتضاع الرسل، جدول أعمالها يغطى مجاهل المدن ومصانعها المزدحمة وكل أنحاء الريف البعيد، حتى تصل الكلمة وأعمال الخدمة إلى كل أولاد مار مرقس الضائعين فى شوارع المدينة والمُعدمين فى أقصى الريف. صوم الرسل هو إذن، بالنسبة إلى الكنيسة الرسمية، صوم الحُب والغيرة والبذل، صوم العرق والدم، صوم الأسفار والنوم فى العراء والمشى على الأقدام وارتياد الأماكن التى لم تطأها أقدام الرحمة بعد.
إذن- فصوم الرسل كما يقول الأب متى المسكين، يصلح دائمًا لأن يكون موسمًا للدعوة والتكريس ووضع الأيادى، حيث يكون الروح القدس متأهبًا دائمًا للاختيار والتعيين فى ظل انسحاق القلوب بالصوم والتهابها بذكرى جهاد الرسل واستشهادهم. يظل هذا الصوم هو صوم الكنيسة كلها، حتى نسائها وأطفالها. لكن ماذا نقول بعد الذى حدث فى 4 نوفمبر 2012، حيث فى غياب الروح القدس تم الاختيار البشرى الذى جلب على الكنيسة الآلام والضيقات والبُعد عن طرق آباء الكنيسة الأولين!!، فتقنين فترة صوم الرسل يدل على ضحالة الفكر الكنسى وفكر المكرسين الأمناء للخدمة الواعية.