رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الكهنوت العصرى الجديد


قضيت أيام العيد، أفعل أشياءً لا علاقة لها بالأعياد، جرى، وهرولة، وقلق، لا يشتهى الكعك، ولا يهفو إلى إرسال تهنئة العيد لأحد. ذهب العيد، وبقى الإرهاق، والإنهاك، كأننى كنت فى حرب ضروس، لإحياء الخلافة الإسلامية المندثرة. أذهب إلى إعداد فنجان آخر من القهوة، لا أستطيع أخذ القرار.. هل أشرب القهوة المستوردة سريعة الذوبان أم أشرب القهوة المحلية على نار هادئة؟.
أريد قهوة خاصة، بها ميزة النوعين تذوب سريعًا، لكنها محوّجة بالحبهان والمستكة، لكن هذه الرغبة المتواضعة- مع رغبات أخرى أكثر تواضعًا- معطلة، محرمة، محكوم عليها مسبقًا بإثارة الحنين للحرية، وتحريض النساء للإصرار على حقوقهن. أسدل الستائر، هذا الركن الهادئ فى البيت اخترته للكتابة والتأمل، أبدأ فى ارتشاف القهوة المحوجة، أعيد للمرة العاشرة تصفح الجرائد والشائعات، غير مبالية حقًا بأخبار العالم، وهل هناك أخبار إلا تقييم مسلسلات رمضان وأخبار المزيد من شهداء الدم والقتل والذبح والتفجيرات؟، وهل هناك أخبار إلا «تغطية» الأحداث؟.
ولماذا التغطية مع أن المطلوب هو «تعرية» الأحداث لا تغطيتها؟. «التعرية» هى الجسر الوحيد للعبور إلى الفهم، لكننا فى زمن يغطى النساء بالأكفان وهن أحياء، ويغطى الحقيقة بتحليلات وتفسيرات ما يسمونهم «خبراء» للسياسة، خبراء للاقتصاد، خبراء للثقافة، خبراء للإعلام، خبراء للسعادة، وهناك خبراء أفلام العيد، وخبراء الجنس المثالى، وخبراء الأرصاد الجوية، وخبراء للتنبؤ بتقلبات البورصة والمناخ وهرمونات النساء عند الحيض وسن اليأس، وهناك خبراء الحج السياحى الفاخر، وخبراء التجميل لطمس بصمات الزمن، وجهة نظر.
هناك «خبير» ينتظرنا أينما ذهبنا، بين ركن وآخر يوجد خبير، بين كل خبير وخبير يوجد خبير يفرض خدماته ومعلوماته، ويملك فك الشفرات وحل الألغاز وتفسير الأحلام وإبطال الأعمال ورد المطلقات، وجلب الرزق وإعادة الحبيب ودخول الجنة ودخول البرلمان. الخبراء هم بلا شك، «الكهنوت» العصرى الذى يسمى الأشياء بغير مسمياتها الفعلية، ويوزع على الناس صكوك التأقلم والتكيف والتصالح مع تشوش الحقيقة أو تشوهها أو غيابها، ولكن أى حقيقة وكل الحقائق أصبحت وجهات نظر؟.
الخيانة الزوجية وجهة نظر، الفساد وجهة نظر، خيانة الوطن وجهة نظر، الجرائم الإلكترونية وجهة نظر، سفك الدم وجهة نظر، ارتفاع أسعار ياميش رمضان وجهة نظر، التصالح مع الأعداء وجهة نظر، رعب ماراثون الثانوية العامة وجهة نظر، إرهاب الميكروفونات وجهة نظر، تحجيب الأطفال الإناث وجهة نظر، الكذب وجهة نظر، امتيازات الذكور فى الأسرة والمجتمع وجهة نظر.
من بستان قصائدى
أنا فى احتياج.. إلى إجازة طويلة
من دوشة الأطفال والميكروفونات.. من عيون الرجال وكلام النساء
من منظر الشوارع وشكل المذيعات.. من تفاهة البرامج الثقافية
وجمود البرامج الدينية.. من صرخات الاستغاثات
أنا فى أشد الاحتياج.. إلى إجازة طويلة
من تدافع الذكريات.. من فناجين القهوة الباردة
من أفكارى وخواطرى ومشاعرى.. من سهرات العشاء الشاردة
أنا فى أشد الاحتياج.. إلى إجازة طويلة
من رنّات التليفونات.. ومن رنات الحنين
من دقات الباب.. ودقات الساعات
أنا فى أشد الاحتياج.. إلى إجازة طويلة
من تأنيب الضمير.. وصوت العتاب المرير
أنا فى أشد الاحتياج.. إلى إجازة طويلة
من صوت التفجيرات.. وأخبار سفك الدماء
من طيور لا تغرد.. ولا تطير فى السماء
من العادة والتكرار.. من الليل والنهار
أنا فى أشد الاحتياج.. إلى الاختفاء من كل الأشياء
إلا همسات البحر.. وغفوة لا تصحو.. على وسادة الوفاء.