رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«سيدة الزمالك».. الرواية وتحولات المكان والوطن


أصبح من شبه المتعارف عليه أهمية الرواية كمصدر للتاريخ، فالعلاقة بين الأدب والتاريخ علاقة قديمة وأكاد أقول إنها أبدية، وحارب التاريخ كثيرًا- أو فى الحقيقة حارب أهل التاريخ- من أجل تأكيد فطام التاريخ عن الأدب، لكنها فى الحقيقة حروب فى غير مكانها أفقدت التاريخ الكثير من مصدر حيويته، تحت دعاوى المصداقية والموضوعية.
على أى حال أنا شخصيًا أعتبر «ثلاثية محفوظ» أهم ما قرأت عن تطور المجتمع المصرى بين الحربين العالميتين، وأعتبر روايات إحسان عبدالقدوس صفحة عن أجيال جديدة، هى أجيال ثورة 23 يوليو، من هنا استرعى انتباهى عنوان رواية «سيدة الزمالك» للأديب المتميز المستشار أشرف العشماوى.
ما شدنى فى البداية هو وضع اسم حى الزمالك فى العنوان، وأنا مُغرَم بتاريخ الأحياء، والرواية مصدر أساسى لتاريخ أحياء المدينة. الأمر الثانى هو القاضى الروائى أشرف العشماوى، وهو بحق ظاهرة مهمة فى الوسط الثقافى، فأن تصل روايته «تويا» للقائمة الطويلة لجائزة البوكر عام 2013، هو أمر يستحق الالتفات إليه، ومع ذلك فأشرف العشماوى يكتب دون ضجيج، ودون فريق من النقاد أو الإعلاميين، هو يكتب بروح وسمو القاضى وروح الهاوى، لهذا سرعان ما تسقط فى سحر أسلوب وعالم العشماوى.
«سيدة الزمالك» قد تبدو رواية جريمة، ورواية عن غموض «أسرار العائلات»، وربما يبدو ذلك على لسان مراد الكاشف أحد أبطال العشماوى: «جرائم ظلت عالقة فى الهواء لما سكت الشهود عنها، لا المحققون كشفوها، ولا القانون عاقب فاعليها». هنا تتجلى بشدة روح القاضى لدى العشماوى، وهو ما يظهر أيضًا من خلال ولعه بالتفاصيل، فالتفاصيل لديه هى الغلاف الجوى الذى تسبح فيه الرواية.
تعتبر «سيدة الزمالك» مصدرًا مهمًا لرصد تحولات أحد أشهر أحياء القاهرة فى القرن العشرين، حى الزمالك، إذ يبدأ العشماوى رحلته مع الحى الهادئ قبل ثورة 23 يوليو: «حى الزمالك الغارق فى السكون ليلًا ونهارًا»، كما يقدم وصفًا لطبيعة الحى: «كم القصور والفيلات والهدوء الذى يلف المكان بالتضافر مع أغصان شجيرات ضخمة منثورة بكثافة لا تخلو من دقة على جانبى الطرق».
تدور بنا رواية العشماوى مع تحولات المكان، وسقوط قيم الجمال، وتسرب روح العشوائية، وسيطرة حى إمبابة على الزمالك، والمقاولين وهدم الفيلات التاريخية، وبناء عمارات أشبه بعلب الكبريت. يبدأ العشماوى روايته بعبارة محورية: «مجرد عبور الجسر بين الزمالك وإمبابة ينقلك عبر الزمن للفقر والذل والقهر»، ولكن نهاية الرواية تنتصر لعشوائية إمبابة على الحى الهادئ.
ومن الفصول المهمة فى رواية العشماوى الفصل الاستثنائى الذى أجرى فيه شبه محاكمة لثورة يوليو، والتركيز على هزيمة يونيو، كنهاية درامية للثورة، هنا نرى عبدالناصر فى مجلس القيادة، والمشير بين رجاله، والصراع المكتوم بين ناصر وعامر، ووقائع الهزيمة وسقوط الأحلام، بل سقوط الآلهة.
ويبدع العشماوى فى تصوير كل تجليات الهزيمة فى مشهد المشير ورجاله بعد هبوطهم بالطائرة فى المطار بعد ضرب الطيران الإسرائيلى المطارات، وكيف لم يجد المشير ورجاله إلا عربية تاكسى ينتقلوا بها من المطار لمقر القيادة، ويرصد العشماوى الحوار المثير بين ناصر وعامر يوم 5 يونيو، والإحساس بالهزيمة المروعة منذ اليوم الأول: «خان يونس سقطت، ورفح محاصرة، والاتصالات مقطوعة مع غزة، وكل ده فى أول يوم يا حكيم!».
وفى عبارة عبقرية يسخر العشماوى من محاولات القفز على الهزيمة، وإلصاقها فى صلاح نصر قائلًا: «متغافلين عن حقيقة كون صلاح نصر أكبر كبش فداء فى التاريخ بعد كبش سيدنا إبراهيم!».
«سيدة الزمالك» هى محاولة جريئة من أشرف العشماوى ليس فقط لإعادة قراءة تحولات المكان، «حى الزمالك»، ولكن فى الحقيقة تحولات الوطن.